فنزویلا : الأزمة و الخيارات الصعبة

باحث متخصص في شؤون أمریكا اللاتینیة مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعیة

تعرف فنزویلا منعطفا مقلقا منذ مطلع السنة الجاریة، فقد تعمقت الأزمة الاقتصادیة وتحولت الأزمة السیاسیة إلى موضوع للتنافس الجیو-سیاسي، بینما تتأزم باستمرار الوضعیة الإنسانیة في البلاد.

لقد اعتبرت شرائح عریضة من الشعب الفنزویلي ومعھا عدد كثیر من دول العالم، أن إعلان رئیس الجمعیة الوطنیة الفنزویلیة خوان غوایدو نفسھ رئیسا بالنیابة للبلاد یشكل أحد مفاتیح التغییر السریع في فنزویلا، فھو حدث یحمل رمزیة قویة من أجل التغییر وإعلاء صوت المعارضة ضد الحكم السلطوي للرئیس نیكولاس مادورو. فقد عمل ھذا الأخیر طوال سنوات على إسكات الأصوات التي تختلف مع توجھاتھ الإیدیولوجیة الموروثة عن حكم سلفھ الراحل ھوغو شافیز. لا أحد ینكر أن الاشتراكیة في فنزویلا اھتمت في بدایاتھا بالمعیش الیومي للفئات الھشة من المجتمع لكنھا تحولت مع توالي السنین إلى آلیة یستغلھا القائم على النظام لاستدامة حكمھ.

حمل خوان غوایدو آمالا جدیدا داخل الساحة السیاسیة في فنزویلا، ورغم عدم تمتعھ بأي صلاحیات ملموسة لیمارس مھام رئاسة البلاد بالنیابة، لكنھ تمكن في ظرف وجیز من تدویل الأزمة الفنزویلیة وحشد الاعترافات الدولیة، كما استطاع التحول إلى فاعل أساسي من خلال فرض أجندتھ في البلاد، حیث یظھر مادورو كطرف تابع ومنشغل بالرد على مبادرات غوایدو.

لم تكن ردود الفعل الدولیة موحدة حول المنحى المتصاعد للأحداث في فنزویلا، وعكستھا بشكل جلي جلسة مجلس الأمن الدولي نھایة الشھر الماضي التي عرفت استعمالا لحق النقض الفیتو لفرض وجھات نظر متضاربة. روسیا والصین كأبرز حلیفین لنیكولاس مادورو یعتبران كل مبادرة دولیة لتغییر الوضع الراھن في فنزویلا تشكل تدخلا في الشؤون الداخلیة لدولة عضو في منظمة الأمم المتحدة، بینما تعتبر الولایات المتحدة الأمریكیة وعدة دول من أمریكا اللاتینیة والاتحاد الأوروبي أن تغییر الوضع في فنزویلا ضروري من خلال إجراء انتخابات رئاسیة.

ھذا التدافع على المستوى الدولي كان لھ انعكاس مباشر على المستوى الداخلي، ودفع كل طرف إلى التعنت في مواقفھ إزاء الطرف الآخر، وأصبح جلیا أن إیجاد حل للأزمة في فنزویلا سیأخذ وقتا أكثر مما كان منتظرا.

على المستوى المیداني، تلعب المؤسسة العسكریة دورا مھما في دعم بقاء مادورو على رأس البلاد، ولم تنفع لا تلمیحات الرئیس الأمریكي دونالد ترامب باستعمال القوة ولا مقترحات غوایدو بمنح العفو عن مختلف مكونات الجیش الفنزویلي في الدفع باتجاه انقلاب عسكري ضد مادورو. وإن سجلت حالات متفرقة من الانشقاق داخل الجیش فھي تبقى ضعیفة وغیر كافیة لتغییر موازیین القوى في البلاد.

في ظل الظروف الراھنة لن یرضخ قادة الجیش لضغوطات المعارضة وواشنطن، خاصة وأن دول مجموعة لیما في أمریكا اللاتینیة التي تدعم غوایدو ترفض أي تدخل عسكري في فنزویلا. لن یرضى جنرالات الجیش إلا بخروج مشرف من الأزمة الحالیة أو ضمانات حقیقیة وملموسة، ویمكن في ھذه الحالة بدل دعوة الجیش إلى المساھمة في دعم طرف ضد الآخر، دعوتھ لیكون طرفا في إیجاد الحل، من خلال منحھ مھمة ضمان المرحلة الانتقالیة في البلاد كطرف محاید ومساھمتھ في تنظیم الانتخابات الرئاسیة تحت إشراف لجان مراقبة دولیة و أممیة.

ومن جھة أخرى، یعتبر التفاوض مخرجا جیدا لكلا الطرفین، غیر أن نتائج المفاوضات السابقة لا تشجع المعارضة، لأن مادورو كان یستعمل المفاوضات كجزء من مناوراتھ لربح الوقت على رأس السلطة، ولذلك لم تستجب المعارضة لمقترح المكسیك والأوروغواي ودول الكاراییب بإجراء مفاوضات مباشرة رغم إعلان مادورو عن موافقتھ على التفاوض مع المعارضة.

إن تشبث كل طرف بموقفھ سیترتب عنھ وضعیة إنسانیة وخیمة على المدى الطویل، ولعل ضغوطات واشنطن لتركیع النظام الحالي بشتى الوسائل وعلى رأسھا الحصار الاقتصادي لن تؤدي إلا إلى ھلاك الشعب الفنزویلي وخراب البلاد.

من الضروري الیوم التفكیر في سیناریو سیاسي یضمن مرحلة انتقالیة للخروج من الأزمة، فمثلا یمكن للنظام الحالي أن یوجھ للمعارضة دعوة من أجل تدبیر المرحلة الانتقالیة بشكل مشترك على أساس أن یكون الھدف الأسمى ھو إخراج البلاد من الأزمة التي تشلھا. كما یمكن الذھاب في صیغة حكومة وحدة وطنیة یقتسم فیھا مادورو مع غوایدو مقالید الحكم بضمانات دولیة إذا اقتضى الأمر ذلك. ویحیل ھذا السیناریو على مقترح “التعایش الدیمقراطي من أجل فنزویلا” الذي تقدم بھ خلال السنة الماضیة رئیس الحكومة الاسبانیة السابق رودریغیز ساباتیرو عندما كان وسیطا بین المعارضة والحكومة الفنزویلیة آنذاك.

كما یمكن أن یشكل البرنامج الاقتصادي “خطة البلاد” الذي أعدتھ الجمعیة الوطنیة الفنزویلیة أرضیة للعمل، فالتحدي الحقیقي الذي تواجھھ فنزویلا ھو إعادة بناء الاقتصاد والقطاعات العمومیة، ولا شك أن ھذه العملیة ستحتاج إلى دعم خارجي ومتعدد الأطراف، وھي فرصة لتساھم القوى الداعمة لطرفي النزاع في الخروج من ھذه الأزمة والمشاركة في بناء البلاد بصیغة توافقیة بما یضمن ضمنیا للجمیع الحفاظ على مصالحھ في فنزویلا.

فھل یمكن أن تنجح السیناریوھات التوافقیة في فنزویلا، أم ستتحول ھذه البلاد الغنیة بثرواتھا النفطیة إلى دولة فاشلة تھدد الأمن الإقلیمي والدولي لینتھي بھا المطاف إلى سیناریو التقسیم حسب مصالح القوى الخارجیة.

14 مارس 2019

Soyez le premier à commenter

Laisser un commentaire

Votre adresse de messagerie ne sera pas publiée.


*