عائد من الرباط
شعراوى حلمى
أضاءت ندوة “بالرباط “أوائل ديسمبر 2015 ، أجواء اللقاء التقليدى بين المشارقة والمغاربة ، وفي اطار اللقاء الأفريقى الشامل …ذلك أن جيلى قد استمتع لفترة فى الثمانينيات من القرن الماضى ، بحوار خصب بين مفكرين عربيين إسلاميين هما ” حسن حنفى ” من مصر ، و “محمد عابد الجابرى ” من المغرب ، حول خصائص ومميزات الفكر –عربيا و إسلاميا – فى كل من المشرق والمغرب …! وبدا ذلك استعادة لفترة روح ذلك الحوار السابق بين الإمام ” أبو حامد الغزالى ” ، والفيلسوف ” إبن رشد” ، فى القرن الحادى عشر.. ورأى البعض أن الحوار القديم كان يكشف عن مرحلة فى التفكير العربى الإسلامى ، يبدو فيها تمايز المنطقتين بين السلفية والعقلنة ، وإن رأى آخرون أن الأمر كان مجرد تطور للتمايز داخل أقاليم الامبراطورية الإسلامية التقليدية ، بحثا عن مشروعات فكرية جديدة اعتمادا على مسلمات تظل محافظة ، أو زادت تحفظا عند ” الغزالى “، أوانطلقت بمغامرات “ابن رشد ” الفكرية التى صاغت فكر المغارب ، وانتهى الأمر بالمنطقة الشرقية إلى القهر العثمانى من جهة ، أو غياب المغارب فى ملكوت الصوفية من جهة أخرى . ..
نحن الآن فى “الرباط ” ، حيث حضرتُ مع كوكبة من المثقفين الأفارقة والعرب ، ومعنا المغاربيين بالطبع ، فى رحاب الأكاديمية الملكية المغربية حوارا حول عنوان ، يعجبنى فيه الطريقة المغربية فى اختيار الصياغات ، حيث الندوة حول : ” أفريقيا كأفق للتفكير ” …منقوشة بالعربية ، و” التيفناغ” الامازيغية ، والفرنسية والانجليزية ، ليطلقوا العنان لفكر حوالى مائة مشارك ، حول أصول الفكر الأفريقى فيما بعد الاستعمار ، وامتداده إلى مجالات الاقتصاد والتجمعات الإقليمية ، وتحديات التنمية والثقافة والدين ، حتى مرحلة تحدى الإرهاب العالمى ، وفى هذا الخضم تعرفنا بالطبع على الدور التاريخى للمغرب ثقافيا واقتصاديا ، كما طفنا بآفاق المواجهة العالمية بدورها لهذا الإرهاب اللعين ، من أراضى داعش مشرقا ، حتى ” حوض المتوسط” وبراح الصحراء الكبرى .
ها هو المغرب يرد على مقولة العزلة-افريقيا -و التى سادت لبعض الوقت مع رفضه للمشاركة فى الاتحاد الأفريقى بسبب قضية الصحراء ، المقدسة لدى المغاربة ، والمحتدة لدى بعض دول الجوار فى معاندة تبدو متبادلة ، دون حلول قريبة , حتي مع اقامة العلاقات الاقليمية التننموية بينما تتحول القضية إلى الساحة الدولية التى تلعب فيها المصالح الخارجية دورها فى إساءة العلاقات بين الأشقاء . وأنا أرصد بين يوم وآخر تقلبات المواقف بين الأمريكيين والفرنسيين والأسبان ، بل والموريتانيين وعدد من الدول الأفريقية صعودا وهبوطا حول الحقوق المقترحة للمشكلة ، و جميعنا يدرك تماما أهمية تراضى دول الاتحاد المغاربى لتشكيل قوة حقيقية على المستوى الأفريقى ، بسبب عناصر الثقافة بينهم ومصالحهم الممتدة فى غرب أفريقيا على الأقل ..والآن لم يعد يجمع هذه المنطقة إلا توحيد المواجهة الأمنية للإرهاب فى الصحراء الممتدة فى أكثر من عشر دول أفريقية …
بدت “الرباط ” إذن بهذه الندوة الجامعة متحفزة ، لاستعادة مكانتها على المستوى الأفريقى ، سواء كانت عضوة أم لا فى هذا الاتحاد الأفريقى الذى يبدو مترددا بل ومترديا ، عازفا عن دور فعال فى مشكلة مثل هذه بشمال القارة … من هنا يبدو النشاط المغربى الآن إلتفافة ذكية من الإدارة المغربية ، بعد أن راجعت أكثر من 30 دولة أفريقية لمواقفها من الاعتراف بالصحراء الغربية ، كما بدت المغرب متعاملة بتسامح أكبر مع الدول المختلفة على الصعيد الأفريقى ….وقد كان بالندوة معنا شخصيات كبيرة من مؤسسة ” مانديلا” ، وجامعة كيب تاون ، رغم معرفتنا بموقف جنوب أفريقيا من القضية مثلما كان – وما زال تقريبا – موقفها من مصر .
وكان الوجود المغربى فى الندوة ، وعرض أبعاد النشاط الاقتصادى المتنامى مع القارة ، والتاريخ الثقافى عميق الأثر فى أفريقيا الغربية خاصة . كان ذلك أحد مكاسب المغرب بالطبع فى الاقتراب من العقل الأفريقى النشط ، لكن هناك أيضا الطابع المغربى فى الاقتراب الخاص بالبعد الدينى التاريخى فى غرب أفريقيا ، والبعد الثقافى الحديث مع دول شمال المتوسط ، حيث حضر عدد متميز من المثقفين البرتغاليين والفرنسيين والإيطاليين ، بما جعل الندوة لا تبدو مجرد عودة لحوار المشرق والمغرب ، ولا حتى مجرد لقاء عربى أفريقى منافسا بجدارة لمثل هذا النشاط فى المشرق ، وإنما هو تأكيد لاستمرار حوار ممكن عربى أفريقى من جهة وأوربى من جهة أخرى ، وهذا ما آمل أن يدفع به الأصدقاء المغاربة ، لأننا كما ذكرت فى الندوة عانينا من الحوارات العامة بين الاتحاد الأوربى مجتمعا للإيهام بالمصلحة العامة ، ومنفردا مع كل دولة عربية أو أفريقية علي حدة للإحتواء الفعلى …!
كان حضور شخصية هامة مثل” مختار امبو” المدير العام السابق لليونيسكو ، وصاحب المعركة مع الهيمنة الغربية فى مجال المعلومات والثقافة الوطنية فى الثمانينيات ، كان حضورا مؤثرا …بل ودفع الرجل وهو يقاوم سنه ببسالة ، بفكرة عن التنمية الوطنية فى أفريقيا ، منذرا دول القارة بأنها ما لم تتجه للتصنيع ، وبناء إمكاناتها الذاتية فلا مكان لها فى التاريخ ….شعرت بأن ” المختار” هو هو فعلا ، الذى أصدر فى عهده موسوعة ” التاريخ العام لأفريقيا ” من ثمانى أجزاء باللغات الكبرى ومنها العربية ، ليكون تعبيرا عن خيار وطنى فى الثقافة الأفريقية لا ينسى …
والحق أنى لم أشعر فى الرباط بهذه الرغبة التى يبثها الإعلام أحيانا لفرض تمايز الفرقة ،مما قد يبدو للبعض فى الفكر والفن بين مغرب ومشرق…بقدر ما يبدو أحيانا فى السياسة بحكم تغير السياسات بين فترة وأخرى . لكن المغاربة يتذكرون جيدا طبيعة علاقة مصر بحركة تحرير المغارب عامة ، بل والعلاقة الخاصة بين الملك محمد الخامس وجمال عبد الناصر ، سواء فى زيارات عبد الناصر للمغرب والدعم المشترك لثورة الجزائر ، أو اقامتهما سويا لكتلة دول الدار البيضاء الافريقية التحررية ، أو بحضور محمد الخامس لوضع حجر الأساس لبناء السد العالى إلى جوار عبد الناصر عام 1960
وقد شهدت الندوة روحا عالية فى معالجة قضايا بالغة الأهمية على مدى أربعة أيام طوال ، لم نقو عليها ، إلا بمواد كرم الضيافة المغربية البالغة ..! والحضور النشط والمثمر ، لأكثر من خمسين شابة وشابا من حملة الماجستير والدكتوراه من كافة الجامعات المغربية يناقشون ، ويتساءلون ، ويخدمون ، بمختلف الوجوه ، وهو تقليد حميد حقا أشعرنا بأن جيلا جديدا يمكن أن يتلقى الخبرة وينشرها خاصة وان بعض هؤلاء الشباب كانوا من دول أفريقية مختلفة ممن يدرسون بالمغرب .
ها قد أخصب المغرب الحوار العربى الأفريقى بنمط جديد صاعد فى هذه المنطقة التى نشعر بالقلق من أى تمييز بينها ؛ بين مشرق ومغرب ، فقضايا الاقتصاد والثقافة والشباب والهجرة …باتت كلها ذات صلة اساسية ، بقضية الإرهاب الذى يتوحد عالميا ، موحدا لشعوب المشارق والمغارب على السواء….
Soyez le premier à commenter