التقى يوم 13 فبراير 2022، بمقر مركز محمد بنسعيد ايت ايدر بالدار البيضاء، جمع من عائلة الفقيد شكيب أرسلان، وأصدقائه، ورفاقه في العمل النقابي والسياسي، إحياء للذكرى الأربعينية لوفاته. وأكد الجميع على سمو خصال الفقيد، وحجم الخسارة التي مني بها، بفقدانه، البحث التاريخي في المغرب، لاسيما فيما يخص الحركة العمالية وحركة عبد الكريم الخطابي الريفية.
تعريفا ببعض من جهود الفقيد شكيب أرسلان، تعيد المناضل-ة نشر بعضا من كتاباته.
نستأذن الرفاق في مجلة الربيع لنشر النص التالي، كتبه شكيب عن المناضل المغربي علي الحمامي.
موقع المناضل-ة المصدر : https://www.almounadila.info/archives/10679
°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°
1898-2018 أكثر من “مئة عام من العزلة”وثقافة النسيان
أبُ اليسار المغاربي المناضل الشهيد علي الحمامي رفيق عبد الكريم الخطابي
بقلم: شكيب أرسلان
***
كان الصديق شكيب أرسلان، المهتم والباحث في مواضيع الريف وعبد الكريم الخطابي والحزب الشيوعي المغربي والحركة النقابية المغربية، عندما أمدنا مشكورا بالمقال الذي قرأ فيه الفقيد المرحوم محمد العربي المساري رواية إدريس” لكاتبها علي الحمامي، يتحدث عن تلك الرواية بإسهاب، وبإعجاب منقطع النظير، تحولت معه بؤرة الانتباه عندنا من القراءة (التي قام بها المرحوم المساري)، إلى المقروء (الرواية)، ثم إلى كاتب المقروء بالخصوص (علي الحمامي)
فمن يكون إذن هذا الكاتب المبدع، والمناضل السياسي اليساري الشيوعي، المغربي المغاربي والأممي، أحد الآباء المبكرين لفكرة المغرب الكبير ولليسار المغاربي؟
هذا ما تطوع الصديق أرسلان لتقديم عناصر إجابة عنه من خلال هذا البورتريه/التحقيق، الشيق والمفيد.
شكرا مرة أخرى للصديق شكيب أرسلان ومرحبا عضوا جديدا معززا لأسرة تحرير “مجلة الربيع”
*التحرير
*************
“سنقول على سبيل محاكاة قول شهير: لا حركة وطنية بدون نظرية وطنية”
علي الحمامي، مارس 1949.
ترجمة عبد الرحمن زكري
بنهاية 2018، الجاريةـ، تكون قد مرت مائة وعشرون عاما على ميلاد مناضل مغربي كبير هو علي الحمامي. ويجب الاعتراف بصوت مرتفع أنه لولا علال الفاسي الذي تعرف عليه وعاشره في القاهرة بين 1947 و1949، كان سيتعذر تحقيق بيوغرافيا لهذا المناضل، وبالتبعية وضع هذا البورتريه.
كان علي الحمامي أول مغربي تطأ قدماه أرض الاتحاد السوفياتي، بلد لينين في يوليوز 1923، بصفته عضوا ممثلا ل”الحركة الشعبية المغربية في شمال المغرب”. وبصفته مبعوثا للأمير عبد الكريم الخطابي، بحثا عن دعم الثورة البولشفية الفتية.
هو أول مغاربي، والشيوعي المغربي الوحيد الذي عرف واحتك بستالين، تروتسكي، زينوفييف، كامينيف ومناضلي الشيوعية الثالثة كالهندي روي، وطبعا هوشي منه زميله ورفيقه.
يرجع الفضل لعلال الفاسي في رسم الخطوط العريضة لمسار هذه الشخصية الملغزة وفي نقلها إلينا. ومن حق علي الحمامي علينا اليوم، رغم كل التأخر الحاصل وبسببه، أن يخصص له كتاب كامل، لا مجرد بورتريه، مع قراءة جديدة، مغربية، تنزع الحجب بإضاءة عدد من مناطق العتمة التي تلف حياة وعمل هذا الرجل الذي يضاعف تجاهله ونسيانه مفاعيل الجهل به. وهي المهمة التي يسعدنا التطوع لها مستندين على ما تحت يدنا من الأرشيفات ومن كتابات الفقيد، التي ستكون موضوع كتاب أول نحن بصدد إدخال اللمسات الأخيرة عليه قبل إصداره قريبا. وأنا بالمناسبة لا أملك إلا أن أشكر الأصدقاء في مجلة الربيع وفي مركز محمد بنسعيد على قبولهم المبدئي نشر هذا الكتاب في نسخته العربية مباشرة بعد أن تصدر النسخة الفرنسية عن إحدى دور النشر بفرنسا.
ارتجاع تذكري (فلاش باك)
“1898 أو عام البغدادي”
علال الفاسي ومعه كل الشخصيات التي كان لها حظ التعرف على الفقيد علي الحمامي، يعينون المدينة الجزائرية “تياريت” كمكان لازدياده. إنما لا أحد زاد فقدم بيانات دقيقة حول تاريخ ازدياده ولا عن ملابسات ازدياده بالجزائر.
ولقد أمكنني، بفضل فتح الأرشيف السوفياتي، ليس فقط ضبط تاريخ ازدياده، بل أيضا السياق التاريخ والعائلي الذي يفسر لماذا تم ذلك في الجزائر بالضبط، وكذا الخلاصة الأساسية التي يجب استخلاصها من ذلك.
علي الحمامي هو نفسه من سيقدم لنا بدقة، من خلال هذا الأرشيف، تاريخ ازدياده، وذلك في ورقة المعلومات التي كان مطالبا بتعبئتها، بمناسبة دخوله التراب السوفياتي. كانت تعبئة الورقة تقتضي تقديم معلومات مفصلة ومدققة يبنى على أساسها قرار القبول بالترشح لعضوية “مدرسة شعوب الشرق”. ونحن نعرف مدى صرامة السوفيات في ما يخص التفاصيل في مثل هذه الأمور. ولذلك، كانت شكليات التسجيل تلك ذات فائدة عظمى لنا في إعادة رسم الخطوط العريضة في مسار هذا المناضل الفذ.
ليس ثمة إذن أدنى ظل من شك في أن نهاية عام، 1898 هي على وجه الدقة السنة التي أتى فيها علي الحمامي إلى هذا العالم. كان ذلك في مدينة “تياريت” بالجزائر. وهذا العام، للمصادفة، يحمل اسما آخر شهيرا… إنه “عام البغدادي”، نسبة إلى الباشا بن بوشتى بن البغدادي، ذلك الرجل الذي ما اشتهر بشيء قدر اشتهاره بوحشية التي كانت مضرب مثل عند القاصي والداني، وبالأخص عند البقيويين الذين كانوا ضحية لـ”حَرْكاته” كممثل للمخزن العزيزي. ولقد تناقلت الأجيال ذكرى هذه المأساة، الكارثة العظمى: مائتا رب عائلة كانوا قد قيدوا بالسلاسل واقتيدوا ليلقى بهم في سجون الداخل. عائلات أخرى لم ينقذها سوى فرارها للجزائر، علما بأن الأولوية كانت للنساء وخصوصا للحوامل منهن. كم من طفل مغربي سيولد لعائلات مغربية بالجزائر في ذلك الإبان؟
نعرف أنه في تلك الفترة، وبالضبط في بداية 1896، كان ما يفوق 15524 مغربيا مقيمين في الجزائر، ولكننا لا نتوفر على إحصائيات أوفى.
لكن لِمَ كان الغماريون والأخماس (والدة علي كانت من الأخماس) يشعرون بكونهم مستهدفين بهذه “الحرْكة” البغدادية؟ ربما كان ذلك بسبب خشيتهم من “المفاعيل الثانوية”، أو من “الأضرار الجانبية” لهذه الحرْكة المدمرة على الامتداد الجغرافي الغماري الكبير غرب بلاد البقيويين؟
في كل حال، لن يعود البغدادي لبلاد الأخماس سوى لاحقا، وذلك من أجل تحرير الضابط الانجليزي “هاري ماك لين” الذي كان معتقلا عند الريسوني في قبيلة الأخماس، منطقة نفوذه.
هكذا إذن، في مدينة “تياريت” هذه بالجزائر، ستحط عائلة الحمامي الصغيرة رحالها، كنقطة استراحة، قبل أن تكمل رحلتها نحو مصر. وقد أمكننا إلى ذلك، التعرف على والد علي ومجموع أفراد عائلته، وهما معا من قبيلة بني رزين، عائلة حمامو (تصغير أمازيغي لاسم حمامي).
وهنا أيضا، لا بد من توضيح؛ فمحمد والد علي، سوسي غماري، ولم يكن سوسيا من جنوب المغرب كما اعتقد كثيرون. أيضا، لا علاقة تربط عائلة الحمامي وعين الحمّام في منطقة القبايل الجزائرية، كما افترض كثيرون. وأنا هنا قد “أصدم” بعضاً من إخوتنا الباحثين الجزائريين الذين اهتموا بالحمامي من ناحية أصوله.
فمن الطبيعي جدا بالنسبة لمؤرخ كبير مثل الحمامي، أرّخ للمغرب وللمغارب ولحرب الريف، ألاّ يفوته الاهتمام بتاريخه هو وبتاريخ عائلته. وها هو يؤكد على نحو دقيق أن أصل أجداده من “جبل حمام”، الموقع المعروف في جنوب أراضي بني ورياغل في الريف، وأن عائلته القريبة هاجرت واستوطنت قبيلة بني رزين الغمارية أواخر القرن الثامن عشر. أبوه أيضا معروف، وهو الملقب بالشيخ حمامو. وهذه قصة أخرى قد نعود إليها.
وإذن… نعم، “تياريت” بالجزائر كانت مسقط رأس علي، وذلك في الظروف والملابسات التي أتينا على ذكرها. ولكنه وعائلته لم يعيشوا أبدا في الجزائر، بخلاف عائلات بقيوية عديدة، وحتى سبتية، كانت قد فرّت من منطقة الشمال بالمغرب لتستقر في الجزائر كخيار أفضل أو أهون.
كان من بين هؤلاء البقيويين الذين سيبرزون لاحقا وسيلتحقون بصفوف الحركة الريفية، شخص معروف هو القائد حدو بن حمو. ولنسجل بالمناسبة أن عام 1898، عام البغدادي، كان قد شهد أيضا في 15 دجنبر بأجدير، عاصمة آيت ورياغل، ميلاد محمد بوجيبار صهر عبد الكريم الخطابي وأحد الأطر الأساسية للحركة الريفية.
إنما يبقى السؤال لماذا كل هذه العجلة في مغادرة مدينة تياريت التي لم تدم الإقامة/الاستراحة فيها سوى سنة أو سنتين (وربما أقل)؟
الإجابة هي أن تلك العجلة تجد تفسيرها ببساطة في الحالة الجزائرية التي كانت قائمة حينها والتي تكن حقيقة لتختلف في شيء عن حالة المغرب في نفس تلك الفترة: فقد شهدت سنوات 1898 و1899 هجرة كبيرة للجزائريين نحو “دار الإسلام”.
كانت موجة كبيرة من السكان والعائلات تنقلت بحثا عن تجنّس عثماني في مصر وسوريا اللتين كانتا وجهتين مفضلتين. كانت، كما يقول علال الفاسي “حرْكة في شكل هجرة احتجاجية للأراضي العثمانية عام 1898 و1899. فقد هاجر عدد كبير من العائلات المحترمة إلى المشرق وتركيا فرارا من الحكم الفرنسي، وبحثا عن ميدان يمكن أن تتوافر لهم فيه فرص لطلب النجدة من الدولة العثمانية التي ظلت الجزائر تعلق عليها أملا كبيرا”.
كان إذن أمرا عاديا ألال يقوم محمد، والد علي الحمامي بأي إجراء لتسجيل ابنه علي في سجلات الحالة المدنية لبلدية “تياريت”. وفي مصر، سيتم قيده كإسكندري في السجلات العثمانية. أكثر من ذلك، حتى اسمه نفسه سيتمصْرَن عندما أعيدت كتابته باللغة الفرنسية/المصرية بحرف (إي إغريقية) في آخره، بدل حرف (إي عادية).
سينتقل علي الحمامي، بعد ذلك رسميا كمناضل –خارج إطار السرية- بجواز سفر مصري إلى أن تم تجريده من الجنسية في 1932 فتحول منذئذ إلى شخص “أباتريد” بدون جنسية.
ولد حمامو، من بني ارزين إلى بلد لينين…
السفر إلى موسكو بدون تأشيرة وبدون عودة!
كان أمرا بالغ الخطوة أن ينتقل المرء في بداية العشرينات من القرن الماضي مسافرا إلى بلاد الثورة البلشفية. غداة ثورة أكتوبر 1917، كان واحد من المواقف المدهشة للينين المتعلقة بالشرق الأوسط هو إدانته لاتفاقيات سايكس-بيكو الموقع في 1916 بين فرنسا وبريطانيا العظمى. ولم يكن من شأن مواقف كهذه، بالنظر لجدتها كما لمفاعيلها سوى أن توجه ضربة قاسية لمجموع النظام الاستعماري. ولذلك، وخشية من العواقب التي يمكن أن تكون لمثل تلك المواقف على “استقرار” وطمأنينة المستعمرات، سيعمد البريطانيون والفرنسيون إلى منع مرور المناضلين ووطنيي المستعمرات إلى روسيا.
حتى مع افتراض أن لعلي حمامو خبرة بالأسفار (بصحبة والده)، ومعرفة بالخطوط البحرية لتلك الفترة، فقد كان التنقل إلى بلد الثورة بالغ الكلفة من الناحية المادية، ومحفوفا بشتى المخاطر فوق ذلك، كما بينت الأحداث التي شهدها عام 1920 عندما قنبل البريطانيون باخرة “كورك” التي كانت تقل البعثة الإيرانية نحو مؤتمر باكو، فأوقعت قتيلين وعددا من الجرحى. وإذن، كان الذهاب إلى باريس أو لندن أو إلى روسيا يعني ببساطة أن المرء يملك وسائل تحقيق ذلك.
كرونولوجيا الانطلاق
(أ)حسب “ورقة المعلومات السوفياتية” الشهيرة، كان علي الحمامي قد خطط للذهاب للخارج، وبالتحديد السوفياتي منذ نهاية عام 1921.
(ب)بعد انصرام أربعة أو خمسة أشهر، كانت معارك أنوال وجبل العروي وسواها، كان على هيئة الأركان الريفية (عبد الكريم وامحمد) أن تفكر بصوت مرتفع وتأخذ قرارات بشأن الاعتراف الدولي بهذا “الأمر الواقع الريفي”. وبنهاية عام 1921، كانت قد شرعت في التخطيط والتهييء لأسفار استكشافية للخارج… هكذا، ستوضع قوائم بكل أطر الحركة ومتعلميها الذين يتقنون اللغات الأجنبية (الفرنسية والانجليزية والاسبانية)؛
(ج)ستتوجه بعثة أولى مكونة من أزرقان محمد وعبد الكريم بن حدو والقائد حدو البقيوي إلى فرنسا، في مهمة استكشافية أولى وذلك في يناير 1922.
تلتها في يونيو 1922، بعثة ثانية إلى لندن مكونة من محمد بوجيبار وعبد الكريم أيت لوح يصحبهما جون أرفيل.
(د)أما امحمد الخطابي، الذي لم يكن ضمن بعثة أزرقان، فكان قد ارتأى بشكل قبلي أن يطلق مهمة الاستكشاف في اتجاه المغرب الغربي الشمال لاستطلاع إمكانية فتح جبهة في بلاد غمارة ضد الاسبان. وقد تمت تلك الزيارة بتاريخ 26 أكتوبر 1921، حيث استقبل من قبل بني ارزين (بني حمامو) وبني غمارة في عمومهم.
(ه)وتبعا لصعوبات كثيرة تمت مواجهتها، سيوقف امحمد هذه الحركة في اتجاه الغرب ليقرر بالتشاور مع أخيه عبد الكريم تغيير الوجهة نحو فرنسا رفقة محمادي الحاتمي. وقد وافق عبد الكريم شريطة “أن يبقى موضوع السفر سريا حتى بالنسبة لذلك الذي سيرافقه فيه”. (مذكرات “لارينيون”، محمد بن عبد الكريم. دار أبي رقراق. ص 89).
وصل امحمد إلى الجزائر بشكل سري، وشعر كأن قوة خفية ساعدته في أن يستقل الباخرة من الجزائر… ودخل باريس يوم 17 نونبر 1922.
(و)وفي أكتوبر 1922، كان علي الحمامي يفتح مسارا آخر هو مسار سبتة-مرسيليا، حيث سيتم للأسف توقيفه من قبل السلطات الاسبانية، ليسلم بطلب منه، وبعد مفاوضات متعددة، لسلطات جبل طارق باعتباره من الرعايا المصريين-البريطانيين، حيث ستستقبله وتتكفل به إحدى العائلات الإرزينية… أما ما تلا ذلك، فهو الصمت المطبق؛ إذ سيكون ذلك الحادث بداية مرحلة أخرى سيتلقى فيها الحمامي أول درس في العمل السري امتد حتى العام 1932.
(ز)من جهتها لم تفلح تقارير البوليس الفرنسي في أن تضع له بطاقة بيانات واحدة، رغم أنه دأب على حضور اجتماعات في باريس ابتداء من ابريل 1923، وكان يقدم كقريب للإخوة السبتي. أما الملاحظات المدونة في 25 أبريل وفي 5 ماي، فتقدمه كمرافق لآل السبتي، وترسم له صورة شخص هادئ، غير مهتم وغير نشط. وتبين هذه التواريخ من ناحية أخرى أن امحمد الخطابي كان ما يزال في باريس، وسيعود إلى الريف في صيف 1923، تاريخ ذهاب الحمامي إلى موسكو.
“واقعة الدوامة”:
انتفاضة “الأنديجان الريفي” ولد حمامو
على الشيوعيين الفرنسيين
لنسجل أولا أن علال الفاسي سبق له أن أورد وأعاد أكثر من مرة هذه الواقعة إلى الحد الذي أصبحت فيه موضوعا أثيرا وحتى موضوع دعاية ضد الشيوعيين الفرنسيين والمغاربة، في الوسط العمالي والنقابي بالخصوص، حيث كان للشيوعيين المغاربة سبق بالنسبة لزملائهم الاستقلاليين في الاربعينات وبداية الخمسينات.
إنما، ما هي حقيقة “واقعة الدوامة” هذه؟
إذا كان الفرع الفرنسي للأممية الشيوعية، المحدث في 1920 (مؤتمر تور). قد تعرض للمسألة الاستعمارية، فإن الأممية الشيوعية هي التي حملت الشيوعيين الفرنسيين تدريجيا على تبني سياسة وشعارات مناهضة للاستعمار.
كان البند الثامن، ضمن شروط العضوية في الأممية، يقضي بضرورة مساندة حركات تحرر المستعمرات والأحزاب التي تعلن فيها مناهضتها للاستعمار، والتي يشار إليها بالأصبع كلما تعارضت ممارستها العملية مع ما تعلنه. هذه بالضبط كانت حال الحزب الشيوعي الفرنسي الفتي عندما أصبح فرعا للأممية الشيوعية؛ فشيوعيو سيدي بلعباس في الجزائر الذين يمثلون واحدا من أهم فروع المستعمرات، كانوا رافضين للبند الثامن، ويطرحون بدله سياسة “حضور استعماري مضاد للرأسمالية”. كانوا يرفضون الانخراط في النضال المعادي للاستعمار، بحجة أن “المجتمعات البدائية الأفريقية الواقعة تحت الهيمنة الدينية والبورجوازية ليس باستطاعتها القيام بمهمة نضال منسجم. ولكن ملتمس شيوعيي سيدي بلعباس هؤلاء لم يكن ليلقى كمصير سوى الإدانة من المؤتمر الرابع للأممية الشيوعية. وسيؤكد تروتسكي في 1922، إدانة ذلك التوجه بوسمه كـ”وجهة نظر استعبادية خالصة”.
ومن أجل قطع الطريق على مثل هذه “الانزلاقات الاستعمارية”، وفي سياق “بلشفة” كل فروع الأممية، ستكلف الأممية تروتسكي بوضع وقيادة مشروع كبير للتكوين النظري والعسكري سينتقي له 1600 إطارا بغية تكوينهم كـ”ثوريين محترفين”. كان ذلك فوجا استثنائيا من سنتين قومية مختلفة. وهكذا، في اتفاق تام مع تروتسكي، سيبعث الفرنسي بوريس سوفارين من موسكو مراسلة لقيادة الشيوعيين الفرنسيين يطلب منهم إرسال بعثة من التلاميذ/الطلبة، وعلى رأسها الشاب موريس طوريز.
في هذا الصيف السوفياتي الجميل، وبالضبط في يونيو 1923، كانت “مدرسة شعوب الشرق” قد فتحت أبوابها في إعلان عن جاهزيتها الكاملة.
ولذلك، استدعت قيادة الفرع الفرنسي لاجتماع استثنائي موسع حضره أيضا بعض من المناضلين المستعمرات الفرنسية.
على صعيد آخر، كان ولد حمامو، برعاية وتشجيع من المحامي الشيوعي أندريه بيرتون (الذي سبق له التعرف على امحمد أخ عبد الكريم الخطابي في باريس)، قد وضع رسميا ترشحه لعضوية البعثة إياها بكل حزم وقوة في الاجتماع المذكور، وذلك كي يمكنه بالمناسبة المرافعة، في موسكو، عن القضية الريفية.
كانت قيادة الفرع الفرنسي قد أتت بلائحة 22 مرشحا معدة سلفا، مع إعطائها أفضلية للمناضلين الشيوعيين الشباب من أصول فرنسية سلالة، وتشديدها شروط قبول ترشيحات غيرهم من شيوعيي المستعمرات، وفرضها طبعا الشاب موريس طوريز على رأس القائمة.
أما ولد حمامو(علي حمامو)، فكان أمره بالنسبة للقيادة محسوما مسبقا وخارج النقاش: فهو ليس منتميا كامل الانتماء للفرع الفرنسي للأممية الشيوعية، ولا عضوا في الحزب (الشيوعي الفرنسي) مثلما هو حال رفيقه وزميله الفيتنامي هو شي منه أو حاج علي الجزائري. لم تكن له أيضا أية عضوية نظامية في أي فرع آخر سواء في تونس أو في الجزائر أو في المغرب، علاوة على أن منطقة شمال المغرب الداخلة تحت الحماية الاسبانية لم تكن تتوفر على فرع أو تمثيل شيوعي، ومن باب أولى، المنطقة فيه، الداخلة في نفوذ الحماية الفرنسية.
على أن ما استفز هذه “القوة الهادئة” الآتية من الجبهة الريفية وحفزها على القيام بهذا السفر الطويل عبر الأمصار من جبل طارق، هو خلو لائحة البعثة من أي مغاربي.
سيقدم علال الفاسي تفاصيل عن هذه الواقعة كما يلي: “بينما كان طوريز واغلبية فرنسيي “الحزب” يقررون أن بعثة الفرنسيين هي التي ستمثل المغاربيين في موسكو… سيعترض الحمامي ويطالب بتعيين بعثة مغاربية تتولى ذلك الشأن. احتد النقاش مكتسيا طابعا من العنف… وليتحول إلى حركة انتفاضة ساخطة من قبل الحمامي. يكتب علال الفاسي: ثم حدث له خصام مع طوريز…أدى بهذا الأخير إلى شتمه، فرماه الحمامي بدواة جرح بها وجهه، وتدخلت موسكو في الأمر…”
بعد التحقيق في هذه الواقعة ووضعها في السياق العام لشيوعيي سيدي بلعباس، لم يتم فقط الاحتفاظ بترشيح علي الحمامي وتكريسه، بل أيضا سيرتب ضمن الأوائل في لائحة البعثة.
سيقوم الحمامي بالسفر صحبة المناضل الفيتنامي “نغويين آيك كوك”، الذي سيعرف في ما بعد باسم هو شي منه، وسيصبح صديقا له يتقاسم معه نفس الإقامة في الاتحاد السوفياتي.
ومن جهتها، ستحتفظ هيآت الأممية بترشيح الحمامي الذي كان مطابقا للمعايير ذات الأولوية عندها وعلى رأسها أن يكون للمترشح سابق مشاركة في حرب أهلية أو كفاح مسلح ضد المستعمر.
لاحقا، سيكتب علي الحمامي مقالا في جريدة “الأممية النقابية الحمراء”، “يد عاملة أهلية” (عدد 56، شتنبر 1925): “ضمن من هم الأكثر ثورية من الفرنسيين، توجد بعض بقايا لأحقاد الأعراق”. وكانت أول دراسة تنجز عن العمال المغاربة بفرنسا.
سيخلق الحمامي سابقة، حالة “اجتهاد” في حوليات وتاريخ هذه الحركة الشيوعية الوليدة تخطت وهزت الأعراف، بحيث سيقوم المؤتمر الخامس للأممية بإشعار الفرع الفرنسي وكل فروع الأممية بقبول كل الأجانب، سواء كانوا في حالة عبور، مقيمين أو غير مقيمين، في وضعية نظامية أو غير نظامية في صفوف الحزب الشيوعي أو في المنظمات الجماهيرية. وتبعا لذلك، ستشهد قوانين الحزب تغييرات. (في هذا الاتجاه في مؤتمر ليون (يناير 1924).
في مدرسة “لوباريا”
من حلقة “نغويين آيك كوك” إلى حلقة “علي”
“أية خوارق يمكن أن تجلبها في النطاق الثوري طاقة ليس فقط نادي، بل أيضا فرد معزول. أتظنون، ربما، أنه لم يعد بالإمكان لحركتنا أن تنجب رؤساء جوقة من طينة أولئك الذين أنجبتهم حقبة ما بعد 1870″ (لينين “ما العمل”).
كان قائد الثورة البلشفية يجد متعة في استقبال البعثات الأجنبية التي تزور بلد الثورة. ولكن لم يكتب لهوشي منه ولا لعلي الحمامي التعرف على لينين، حين وصولهما إلى موسكو، إذ سيتوفى هذا الأخير في 21 يناير 1924 على الساعة السادسة مساء وخمسين دقيقة. وبالمقابل سيتعرفان على أقرب رفاقه من زينوفييف إلى ستالين وتروتسكي قبل أن يبعد هو وبوريس سوفارين الفرنسي القيادي في أجهزة الأممية عام 1924.
سيصبح هوشي منه وعلي الحمامي مقربين أكثر من ستالين وزينوفييف. وسيكلفهما هذا الأخير بأول مهمة بعد المدرسة، مثلت أول امتحان لهما، وهي إنجاز تقرير مفصل عن الوضعية في المغرب وفي الصين، سيكون القاعدة التي سيرتكز عليها زينوفييف لتدعيم جزء من تحليله للوضع الدولي (مقال وكراس، “الصين والمغرب”، ( المنشور في 1925).
وقد تميزت عودة الحمامي إلى فرنسا بعدد من الوقائع والأحداث من أهمها:
‐انتهاء البرنامج التكويني في الاتحاد السوفياتي” ففي 21 أبريل، الذي صادف الذكرى السنوية الثالثة لافتتاح مدرسة شعوب الشرق، حيث القى ليون تروتسكي خطابا في تجمع لستين قومية «تمتد من المغرب حتى اليابان” كما عنونت صحيفة “لوباريا” في عددها السادس والعشرين الصادر في يونيو 1924.
في ذلك الخطاب، أعلن تروتسكي أن “مركز الثقل في الحركة الثورية العالمية سينتقل بالكامل إلى الشرق إذا ما بقيت أوربا على حالها من الفساد واستمرت النزعة الفئوية في محاباتها للشرائح العليا من الطبقة العاملة” (لوباريا).
سيقوم علي الحمامي بمرور في جريدة “لوباريا” التي كان يديرها وينشرها هو شي منه كان أشبه بتدريب سيتعلم فيه حتى الرسم. كان علي منجذبا لهذه الجريدة التي كان مركز اهتمامها هو الأوضاع في الامبراطورية الاستعمارية الفرنسية. كان واقعا أسيرا لسحر خطاب هوشي منه اللاذع ولأسلوبه في هجاء الاستعمار الفرنسي، وبالخصوص للصورة التي رسمها هذا الأخير لليوطي في إحدى المجلات الشيوعية. وهي الصورة التي سيستلهمها الحمامي بطريقته لاحقا عندما سيكتب روايته “إدريس”.
في الحادي عشر من شتنبر 1924، سيتم تسجيل عودة الحمامي إلى فرنسا بمناسبة حضوره لتجمع نظم في قاعة المنفعة الاجتماعية بباريس إلى جانب المحامي أندريه بيرتون الذي سبق أن دعمه في معركة ذهابه إلى موسكو. وكانت عودته تلك عودة مظفرة حقا؛ إذ سيجلب معه أرفع رتبة يمكن أن يحظى بها مندوب للأممية الشيوعية أو “ثوري محترف”، وهي رتبة صحافي، ملحق من حيث المبدأ بجريدة “الأومانيتيه”، وذلك بخلاف عدد من المناضلين الآخرين الذين سيتم تعيينهم في مهن ذات صلة بعالم الطباعة أو كمتفرغين في بعض المنظمات الجماهيرية.
فمن أجل أن يصبح المرء مندوبا للأممية الشيوعية، وصحافيا فوق ذلك، كان علي الحمامي، إضافة إلى إتقانه اللغات العربية والفرنسية والاسبانية والتركية، أن يكمل تمكنه من اللغة الانجليزية، ويشرع في مواجهة اللغة الألمانية. ذلك ما أهله لتولي عدد من المهام على الصعيدين الدولي والمحلي (فرنسا، اسبانيا، أقطار المغرب الكبير، البلدان العربية وحتى بعض البلدان الإفريقية). في هذا الإطار بالضبط، كان الحمامي عضوا في عدد من الهيآت كالأممية النقابية الحمراء (البروفينتيرن)، ابتداء من 1924 ، وأممية الفلاحين (الكريستينتيرن) ابتداء من 1924 ، والإغاثة الحمراء، وكان أيضا عضوا مؤسسا لنجمة شمال افريقيا في 1926 بباريس، وعضوا مؤسسا للعصبة ضد القمع الاستعماري والامبريالية في بروكسيل ( 1927 )، ومقرها في برلين…
علي الحمامي، الوطنيون المغاربة والمغاربيون
وتنظيمات الأممية الثالثة
بعد استسلام عبد الكريم في شهر ماي 1926 سيرتقي علي الحمامي، مندوب الأممية، لعضوية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفرنسي في يونيو من نفس العام وسيصبح المسؤول الأول عن المسألة الاستعمارية، ومقرر لجنة الاستعمار في المؤتمر المنعقد بمدينة ليل. كان علي الحمامي، إلى جانب السكرتير العام للحزب الشيوعي الفرنسي في ليل، صديقه ورفيقه بيير سيمار (الذي سيغتاله النازيون رميا بالرصاص في العام 1942)، ضمن “جيل حرب الريف” الذين سيكتسحون كل مواقع المسؤولية في هيآت الحزب. لماذا هذا المؤتمر في مدينة ليل؟ ببساطة، لأنها قريبة جدا من بلجيكا حيث سيدفع القمع أثناء حرب الريف كل الأطر الشيوعية للجوء سريا في بلجيكا. ففي هذه المدينة، سيحضّر علي الحمامي مع رفاقه لتأسيس نجمة الشمال الإفريقي، وكذا لعقد أول مؤتمر عالمي، مع رفاقه الألمان، سيكون له وقع في تاريخ مناهضة الاستعمار، وهو مؤتمر بروكسيل.
بالتأكيد، كانت الرياح قد جرت بما اشتهت فرنسا واسبانيا وهي تهدر فرصا ثمينة على الحركة الشيوعية؛ في الوقت الذي كانت الأممية الشيوعية تتطلع وتعمل منذ 1925 على خلق تنظيمات جماهيرية رافدة وداعمة لحركة الريف، ولمجموع النضالات في كل المستعمرات. وقد كتب الحمامي لاحقا متوجها للنخبة الوطنية المغربية والاستقلالية على الخصوص، في فاتح نوفمبر 1947 يقول: “إن مصير سبتة ومليلية اللتين صمدتا أمام المرينيين والسعديين ومولاي اسماعيل، كان سيتقرر بسهولة على يد عبد الكريم، لولا أن فرنسا السيد هيريو [إدوار هيريو رئيس مجلس الوزراء الفرنسي] لم تتدخل في الوقت الحاسم لإنقاذ دكتاتورية المارشال بريمو دي ريفيرا…”
في 1926، سينخرط علي الحمامي، وقد فرض نفسه كإطار ذي وزن في الأممية، وكعضو في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفرنسي، لإسناد بيير سيمار ضد معارضة اليمين الذي كان يهاجم “النزعة العبد الكريمية” للشيوعيين، و يعتبر عبد الكريم كإقطاعي يبحث، عبر حرب الاستقلال، عن ثروة ومجد شخصيين…” وكذا، من أجل الدفاع عن “سلام الشجعان” الذي طرحه عبد الكريم.
“كانت تنقلات علي المكوكية لا تنقطع بين موسكو وبرلين وبلجيكا وفرنسا… وكان دائم الإنصات لنبض المغاربيين في فرنسا، يقول مصالي الحاج.
وكان “شيوعيا مقتنعا، رجلا ذا قيمة استثنائية لم أكن أعرف سوى اسمه الشخصي: علي. كان محبوبا، خدوما وصموتا. كان ذا تربية جيدة. كان يختفي لمدة قد تطول ليعاود الظهور بعد ذلك لأشهر. كان محاطا بشكل جيد من قبل أعلى الأطر في جهاز الحزب الشيوعي. كنت أقدر فيه جديته وذكاءه. كان يجيد الرسم والتحدث بلغات أجنبية عدة… “هذا الانطباع عن الرجل، سيحافظ عليه الأمير شكيب أرسلان دائما. ” كان شابا مغربيا ذكيا وواسع الاطلاع، يحسن الإنشاء بالفرنسية وكان مع عبد الكريم في حرب الريف…”
بالفعل، كان الأمير يعرفه معرفة جيدة. والحمامي هو من بادر “كان يكاتبني، يقول الأمير، ثم جاء وواجهني (في سويسرا على ما أظن) ولقيته في حفلة عملها لي. الطلبة السوريون والعراقيون…”
أما الشيوعيون، وعلى رأسهم ويلي موزنبيرغ، فكانت تجمعهم هم والحمامي علاقات رفيعة بشكيب أرسلان. ويجب الإشارة إلى أن الأمير شكيب أرسلان الذي كان يبدو في أواخر حياته مناهضا شرسا للشيوعية، كان قبل ذلك، وحتى 1930 على علاقات وثيقة بالأميمية وتنظيماتها؛ فهو أولا كان أحد المشاركين في مؤتمر باكو عام 1920، وزار في السنة الموالية الاتحاد السوفياتي ومكث فيه شهرا التقى خلاله، بتشجيع من أنور باشا، قياديين سوفييت.
كانت إرادة الأممية في مساندة حركات الشعوب المستعمرة تجد إحدى ترجماتها العملية في إنشاء منظمات جماهيرية ذات هياكل مرنة. كان الأمر يتعلق بتحشيد شيوعيين ووطنيين وشخصيات ذات توجهات إنسانية، ومنظمات جماهيرية غير الأحزاب الشيوعية في الميتروبول، خلف الشعار العام لمناهضة الاستعمار على قاعدة الإدانة الشاملة للواقعة الاستعمارية ككل.
منظمتان كانتا تثيران اهتمام أفريقيا الشمالية حيث سيلعب علي الحمامي دورا نشيطا جدا: من جهة العصبة المناهضة للقمع الاستعماري وللإمبريالية التي أحدثت في نفس الفترة التي تم فيها إنشاء نجمة الشمال الإفريقي، أي في الأنفاس الأخيرة لحرب الريف. ستغدو العصبة إحدى المنظمات الجماهيرية التي تحظى بدعم هام من قبل الأممية. وبغاية توسيع قواعدها، ستنظم العصبة أكبر وأهم مؤتمر في التاريخ، مناهض للاستعمار، هو مؤتمر بروكسيل في فبراير 1927 حيث ستقدم العديد من الشخصيات دعمها وشهادات على تضامنها، من العالم أينشتاين الرئيس الشرفي للمؤتمر إلى نهرو (الهند) ومحمد حاطا (اندونيسيا)، والسيدة سان ياتسان (الصين)، وهنري باربوس (فرنسا) وشخصيات أخرى ضمنهم اشتراكيون إنجليز. أما بالنسبة للعالم العربي وبلدان المغرب، فكان على الحمامي المسؤول في سكرتاريا العصبة مع مناضلين مصريين وسوريين وفرنسيين هو من سيضع لائحة المدعويين، تحت إشراف ويلي موزنبيرغ، النائب البرلماني الشيوعي في الرايشتاغ. يمكن أن نسجل حضور محمد حافظ رمضان (الحزب الوطني المصري) وإبراهيم يوسف وعبد السعيد (مصر)، ومظهر البكري (قيادة الانتفاضة السورية)، والفلسطيني جمال الحسيني (المؤتمر الوطني الفلسطيني) وبالطبع شكيب أرسلان (اللجنة السورية بجنيف). وقد اعتذر إحسان الجابري ورياض الصلح (المؤتمر الوطني السوري) عن الحضور لأسباب طارئة.
ومن بلدان المغرب والمغرب الكبير، سيغمر علي الحمامي باهتمام وعناية كبيرين المشاركين من رفاقه وأصدقائه في هذا “الحفل المناهض للاستعمار”؛ فنحن نجد طبعا رفاقه الجزائريين الحاج علي عبد القادر (العضو المؤسس لنجمة شمال إفريقيا)، ومصالي الحاج (السكرتتير العام للنجمة)، والشادلي خير الله (رئيس النجمة وعضو حزب الدستور التونسي). أما عبد السلام بنونة من المغرب، “أب الوطنية المغربية” (ر. ريزيت)، وعضو النجمة الذي تلقى الدعوة من ويلي موزينبيرغ، فلم يحضر لإكراهات تتصل بالتأشيرة والإذن بالسفر على ما يبدو. وبسبب هذا الغياب وسوء الفهم، سيفرض السوداني حسن مطر حضوره كمتحدث عن الريف وعن الشعب المغربي. كان يدعي أنه الممثل لجمعية الدفاع عن الريف في أمريكا اللاتينية وأوروبا وسكرتير جمعية الصليب الأحمر للريف… وهذه قصة أخرى قد تكون لنا فرصة للرجوع إليها مستقبلا.
الأممية، ويلي بحثاً عن
موزنبيرغ والحمامي…
زعيم وطني “للمراكشيين”
بعد استسلام عبد الكريم في ماي 1926، واصل “جبْليّان” اثنان عملهما في الميدان وهما القائد أحمد الملقب ب “اخريرو”، على المستوى المحلي، وبالحمامي على المستوى الدولي. كان القائد أحمد اخريرو، أحد أبرز وجوه مقاومة بلاد جبالة ضد الاسبان من مواليد بني حزمر في عام البغدادي (1898)، يواصل الكفاح ضد الاسبان، حتى يوم استشهاده في 3 نونبر 1926، في ساحة المعركة وسلاحه بيده. وكان على الشيوعيين من جهتهم، وضمنهم علي الحمامي، وهم يمضون قدما في حملتهم ضد حرب الريف، أن يتوجهوا للوطنيين في المدن أملا في العثور على قائد يملأ الفراغ الذي تركه عبد الكريم. وهاهنا، يجب ملاحظة أن الاهتمام الذي أولاه الشيوعيون للمغرب في 1927 لم يكن منحصرا في الريف والريفيين، بل يمتد، عبر نجمة الشمال الإفريقي ليشمل مجموع مدن طنجة وفاس ومكناس والدار البيضاء. والحال أن الهيآت التنفيذية للكومينتيرن كانت قد شددت على أن تكثف نجمة الشمال الإفريقي جهودها في إحداث تنظيمات وطنية ثورية في شمال افريقيا. وبالفعل، ستنجح النجمة في بناء فروع لها بإفريقيا وفي ربط علاقات وثيقة مع حزب الدستور في تونس عبر التونسي الشادلي خير الله، أول رئيس للنجمة التي ستحاول قيادتها إقامة تواصل مباشر مع الأوساط الوطنية في المنطقة الفرنسية وفي الجزائر والمغرب. وكان تيودور ستيغ، المقيم العام لهذه المنطقة، قد طالب من المغرب بحل نجمة الشمال الإفريقي في 1928، وسيحصل على ما أراد في 1929 ، أي بعد أن كان غادر المغرب.
في هذا الإطار، أثير اسم بنونة الذي سيصبح عضوا في اللجنة المركزية للنجمة. وما هو مؤكد في كل حال هو أنه كان لبنونة علاقات مع العصبة، وسبق له أن انتقل إلى برلين حيث التقى رئيس العصبة ويلي موزينبيرغ، كما أنه كان يتوصل بمذكرات وكراريس العصبة، وخاصة تقريرها حول مؤتمر فرانكفورت الصادر في 20 يوليوز من عام 1929. ويبدو أن كل هذا جعل من بنونة الممثل الرئيسي للعصبة في المغرب. وبفضل شبكة العلاقات المميزة التي كانت لبنونة سواء في المنطقة الشمالية أو الجنوبية، ستتمكن العصبة ليس فقط من ترويج منشوراتها بل أيضا من تكوين معرفة مباشرة بأوضاع المغرب. هكذا إذن، سيجد موزينبيرغ مبتغاه عند بنونة، عندما توجه له طالبا معلومات عن نشاط السوداني حسن مطر خلال حرب الريف.
غير أن المؤتمر السادس للأممية، بناء على تكتيكه الجديد طبقة ضد طبقة، وتبعا لأحداث الأزمة، سيضع بالتدريج حدا لهذا التعاون، وسط حملة انتقاد على صعيد المستعمرات، ل”الاستغلاليين الوطنيين” الذين يستظلون بحماية القوى الغربية” ضد جماهير الفلاحين المنتفضة. علي الحمامي، السكرتير الأسبق لعبد الكريم، الذي سيصبح أحد أبرز المختصين في شؤون المسألة الفلاحية، سيتوجه من جهته بالنقد لبنونة، وذلك في الوقت الذي كانت العمليات العسكرية تتوالى في البادية، وكانت الإصلاحات التي ينادي بها الوطنيون في المدن تبدو له محتشمة كونهم لا يطرحون مسألة الاستقلال على جدول أعمالهم. وكان الأمير شكيب أرسلان قد أدلى بدلوه هو الآخر في هذا النقاش، وذلك على سبيل مناصرة بنونة.
من الملحمة الدرامية للشيوعي المصري عبد الرحمان الفضل
إلى مأساة “آخر ممثل لجمهورية الريف”،
(الأباتريد) على الحمامي
‐كرونولوجيا مغادرة قسرية لبرلين: صعود النازية والفاشية،
وبداية النشر التدريجي للستالينية
بدأ النشر التدريجي للستالينية وسط الأممية الشيوعية؛ فتم إبعاد رئيسها زينوفييف، ومعه ويلي موزينبيرغ وعلي الحمامي ومناضلين زينوفييفيين آخرين في العصبة كانوا مضطرين للخروج من برلين ولم تكن لهم أية ضمانات في حال وطئت أقدامهم مجددا أرض ثورة أكتوبر، لذلك، ستصبح فرنسا قبلة لعدد منهم.
كان المصريون الذين عادوا ضمنهم قد جردوا من جنسيتهم بمقتضى مرسوم يوليوز 1931، وبند ه الثالث عشر، وكان علي الحمامي الذي يحمل الجنسية المصرية آنذاك ضمن اللائحة.
كان اسم عبد الرحمان فضل على رأس اللائحة. قبض عليه البوليس في ميناء الأسكندرية عندما كان مستقلا سفينة يونانية في طريق عودته إلى مصر. ومنع من مغادرة السفينة وتم تنبيه القبطان لمسؤوليته عن بقائه على ظهرها حتى تغادر المياه الإقليمية… و” تكرر ذهابي وإيابي من ميناء بيريه اليوناني إلى الأسكندرية والعكس أربع وخمسين مرة، وفي كل مرة أصل فيها إلى ميناء الأسكندرية، كنت أجد عشرات من مندوبي الصحف المحلية والعالمية في انتظاري”.
ثم تفجرت قضية الشيوعيين الذين اسقطت عنهم الجنسية وأثيرت من زوايا مختلفة وطنية وإنسانية وقانونية…
نفس هذا المصير كان في انتظار علي الحمامي.
ولئن كانت قضية عبد الرحمان فضل قد انتهت إلى الحل مؤقتا وعلى نحو إيجابي، أو كما عبر رفعت السعيد عندما قال إن عبد الرحمان فضل سيعدّل قانون الجنسية، فإن قضية الحمامي كانت بالغة التعقيد، فالمصالح الأمنية الفرنسية لم تتمكن أبدا من ضبطه. وبالمقابل، كانت المصالح الاستخباراتية البريطانية تتابع تحركاته منذ أن مرّ عبر جبل طارق فوضعت له ملفا في لحظة أولى كمشارك في حرب الريف (كفاح مسلح)، ثم بعد ذلك كمناضل شيوعي في صفوف العصبة التي كانت موضوع متابعة دقيقة من قبل البريطانيين، وذلك ببساطة لأن أغلبية مناضلي العصبة، وطنيين وشيوعيين، كانوا ينحدرون من المستعمرات البريطانية، من مصر إلى الهند. كتب الحمامي يقول في رسالة إلى بنونة: “لم تسمح لي الحكومة المصرية بالنزول في بورسعيد لأتابع سفري إلى جدة عن طريق السويس، وكذلك فعلت معي السلطات في فلسطين وفي بيروت حتى إنني بقيت تسعة عشر يوما والباخرة تطوف بي حول البحر…وأخيرا، نزلت في تريستا (إيطاليا) بعد ما ضاع مني المبلغ الذي كان معي لأسدد به مصاريف السفر”.
كان يتعين على علي الحمامي، الذي كان إلى ذلك الوقت “ثوريا محترفا”، أن يبحث عن عمل. كان الاتحاد السوفياتي أول بلد يعترف بالدولة السعودية الحديثة الولادة ويقيم معها علاقات إلى حدود 1938… وكانت هذه الدولة الوليدة تحتاج لأطر إدارية. وكان تمكنه من اللغات الأجنبية تؤهله لانتزاع شغل كمترجم. كان هدف الحمامي، أن يمر عبر مصر ليزور هناك عائلته الصغيرة. ولكنه، للأسف، سيلاقي نفس مصير الشيوعيين المصريين، ويصبح أول مغربي يجرد من الجنسية. وسيكون الأمير شكيب أرسلان هو من سيتدخل ليخرجه من ذلك الوضع الدراماتيكي، على إثر طلب سيوجهه لبنونة: “رفضت الحكومة المصرية في “بورسعيد” أن تدعه ينزل بحجة أنه شيوعي، واضطر أن يرجع في الوابور إلى إيطاليا ووصل إلى “تريستا” وأرسل من هناك يستغيث بنا ويلتمس مني أنا وأخي الجابري أن نرسل إليه نفقة سفره مرة أخرى حتى يذهب إلى “مصوع” ومنها يأتي إلى جدة”.
من جدة إلى بغداد
استراحة المحارب
في “مذكرات حاج”، يؤكد الحمامي حضوره في العربية السعودية ابتداء من 1933 حيث يصف وضع حجاج المغرب الكبير، ويرسم في روايته “إدريس” بالخصوص “جحيم الوهابية”. ولكنه يبقى صابرا متحملا طوال سنتين.
سيتدخل الأمير شكيب أرسلان عند ملك العراق فيصل كيما يتدبر له موقعا كمدرس للغة الفرنسية، ابتداء من 1935، في مؤسسة للتعليم اليهودي (أليانس إسرائيليت) (وهي المؤسسة ذاتها التي كان امحمد، شقيق عبد الكريم الخطابي، تعلم فيها اللغة الفرنسية بتطوان)، ثم كمدرس للتاريخ والحضارة الإسلامية في إحدى المؤسسات الثانوية ببغداد.
عندما زار محمد داود علي الحمامي في بغداد يوم السبت 1 صفر مايو 1935 وجده قاطنا “بنزل المعرض، بيت كراؤه دينار وربع أو نصف، بالماء والنور والخادم وبه منظر جميل”. وكانت تلك الصيغة من السكن على الطريقة الانجليزية (مطبخ وغرفة)، قِبلة للصحافيين والفنانين والكتاب، كما كان شأن طنجة في الثلاثينات.
هناك، شعر الحمامي بالاستقرار وارتفاع في المعنويات جعله ينكب على كتابة أعمال وتحقيق مشاريع، مقالات وكتب تتعلق عموما بالمغرب والمغرب الكبير وخصوصا بحرب الريف.
خلال سنوات ما بين الحربين هذه، سيكرس القسط الأعظم من وقته للقراءة والكتابة. كان يثقف نفسه بدون توقف ولا كلل، ويقوي معارفه بكل اللغات ليواجه المهام المقبلة. توقف كثيرا بالخصوص عند الكتابات الكبرى لابن خلدون. كان شديد الانضباط، بطاقات لا تنضب، لا يضيع ثانية من وقته، فما كاد يحل جزئيا مشكلته، حتى بدأ التفكير، وهو في الباخرة التي تقله إلى مكة، في وضع كتاب حول حرب الريف، وأرسل إلى بنونة رسالة يقول فيها: “سأكتب لكم فور وصولي إلى مكة، ولعلنا نحافظ على علائق مستديمة حتى يفرج الله على كربة المغرب وتعاسة حظه، كنت أوصيتكم عندما شرفتم مدينة برلين عن كتابين أود كثيرا إذا أمكنكم أن تتدبروا أمر توفيرهما وهما كتاب “حرب المغرب” للجنرال برنكر، وكتاب غابرييل مورا بخصوص مسألة مراكش علني أستفيد منهما في الكتاب الذي سأخرجه للوجود بعد سنة أو اثنتين. أسلم عليكم وأسلم على الشبان الأحرار العاملين، خصوصا السادة محمد بن الحسن الوزاني والناصري”.
ستواتي الفرصة علي الحمامي كيما ينجز أخيرا كتابه عن حرب الريف، إنما هذه المرة، بالاشتراك مع رفيقه عبد الكريم الخطابي في القاهرة، ابتداء من 1947.
علي الحمامي في القاهرة
“السكريبت رايتر” والمنظّر للحزب الخطابي
في المغرب الكبير (1947-1949)
على الحمامي المؤرخ: مذكرات عبد الكريم
ما إن وصل الحمامي إلى القاهرة حتى فرض نفسه كمؤرخ للمغرب، ولكن ضمن الإطار العام للمغرب الكبير، فنحن نجد إشكالية المسألة التاريخية لحياته ولبيئته ولعصره تخترق كل مساره ووعيه كمناضل/مؤرخ. كان الحمامي متمكنا بشكل رائع من تاريخ المغرب الكبير ومن كل التاريخ العالمي. كان دائما يردد أنه ما من شعب يستطيع مواجهة مستقبله إن كان يجهل تاريخه، وأن الشجرة لا تبقى واقفة على الدوام سوى بفضل جذورها. وأخيرا، لا يجب نسيان أن الحمامي كان ضمن مناضلين قلائل (هو وحسن الوزاني وعلال الفاسي…) يملكون هذه القدرة الفكرية للرد على الخسة والافتراءات بترفعٍ عالمٍ، يليق بالباحثين والكتاب.
“أخذ الحمامي يشتغل في القاهرة إلى جانب البطل (ابن) عبد الكريم وأخيه محمد، حيث كانوا يعقدون يوميا جلسات عمل، يملي فيها الزعيمان فصولا من تاريخ حرب الريف، ويعرض عليهما الحمامي ما كتبه المؤلفون الأجانب عنها، فيصححان له البعض وينقضان غيره… والكل، من أجل توفير المواد الأولى لتحرير مذكرات الحرب الريفية التي مات الحمامي عندما شارفت على نهايتها. وكان مقررا أن تنشر تلك المذكرات بلغات متعددة. (…) وهكذا سيظل اسم الحمامي مقترنا باسم البطل الريفي”، يقول علال الفاسي.
ومن جهة أخرى، وعلى حد علمي، لم يسبق لعبد الكريم الخطابي أن وضع تقديما لكتاب في حياته، باستثناء كتاب علي الحمامي، روايته “إدريس”، وكتاب الشيخ محمد الكتاني.
في هذا التقديم، يمنح عبد الكريم الخطابي للحمامي وضعا مزدوجا عبر لقبين: فهو أولا المقاوم (المجاهد بالمعنى العسكري للكلمة)، وهو ثانيا الأستاذ (الأديب والمثقف). قليلون ضمن هذه النخب المغاربية من مارسوا الكفاح المسلح والنضال السياسي، وفوق ذلك، “نظّروا” لهذه الأعمال. ولذلك، سيحتل الحمامي مكانه ضمن أقرب المقربين في محيط عبد الكريم، وسيكون من مهامه وأعماله:
‐توضيح توجه اللجنة ورئيسها عبد الكريم الخطابي (وقّع حوالي عشرين مقالا منشورا في جرائد مغربية وجزائرية)؛
‐مساعدة ومواكبة كل الأحزاب السياسية المغاربية؛
‐فتح نقاش، عبر مقالاته، مع كل الشيوعيين المغاربيين بالخصوص حول القضية الوطنية والمسألة الاستعمارية؛
‐كان متخصصا كبيرا وبارعا في وضع الكراريس الدعائية، بالنظر لخبرته السابقة في الأممية الشيوعية وفي حرب الريف. وسيقع عليه الطلب في لحظة أولى من قبل مكتب المغرب العربي لتحرير كراس عن تاريخ الجزائر وأوضاعها، على إثر نشر عبد المجيد بنجلون “هذه مراكش”، وحبيب تامر “هذه تونس”.
كتب علال الفاسي يقول: “كان الحمامي فكرة حية، وكان إلى جانب ذلك غزير العلم، وافر المادة، يتحدث مثلما يكتب، يضرب الحاضر بالماضي، ويقرن قضية العهد الحالي بقضية القرن الغابر، ولذلك فالمرء يحتاج لكي يفهم كتابته وحديثه إلى شيء من الاستحضار التاريخي لأن الحمامي حقيقة كان تاريخا يتحرك. كان يحفظ أحيانا حتى نصوص بعض الكتب أو المراجع التي يتوقف عليها في كتابته. وكان إذا أراد الكتابة عمد إلى أساليب الأطروحات الجامعية، يقرأ ما يشاء من الكتب، ثم ينسخ النصوص بيده أو يدفع إلى إخوانه بالمكتب ليرقنوها ثم يعود ينظر إليها. هكذا رأيته يفعل في الفصول التي كان يكتبها من مؤلفه الذي كلفه المكتب بوضعه عن الجزائر، والذي لا أدري اين انتهى أمره، فقد تركته مشرفا على إتمامه وبعث لي منه بعض الفصول لأطلع عليها وأنا بطنجة”.
ليس في نيتنا أن نفصّل أبعد من القياس في هذا “البورتريه” في معطيات هذه الفترة (1947-1949) الغنية جدا بالأحداث… فحسْبُنا أن نسجل بعضا من أهمها:
ففي أية لحظة (من هذا الحدث)، وفي أي تاريخ سيغادر “الأباتريد” بغداد في اتجاه القاهرة، علما بأنه كان قد جرد من جنسيته المصرية؟ أما الحدث فهو تكوين مكتب المغرب العربي. وأما الحدث الأكثر أهمية فهو وجود رفيق له في القاهرة هو عبد الكريم الخطابي. هذا أولا.
وثانيا، كانت ندوة قد افتتحت في القاهرة في الفترة الواقعة بين 15 فبراير و22 منه، وصلتها برقيات عديدة من بغداد تحيي وتهنئ بعقد هذا المؤتمر الذي سيطلق عملية تشكيل مكتب المغرب العربي ذاك، وكان من ضمنها برقية علي الحمامي التي تلاها على المؤتمر الشاب عبد الكريم غلاب.
ثالثا، كان التونسي رشيد إدريس قد تحدث عن زيارة الحمامي للمكتب يوم الخميس 3 يوليوز 1947، مع تأكيده أن هذا الأخير كان قد قدم من العراق أياما قبل ذلك، أي نهاية شهر يونيو.
رابعا، حال وصوله إلى القاهرة، سيحرص على “الاحتفال” بهذا الحدث الذي أخلف مضطرا رغم طول انتظاره له. وقد كتب يقول، أشهرا بعد ذلك: “منفيون قسريا” كانوا قد اجتمعوا… وبعد نقاشات ناضجة ومطابقة لما يمليه الضمير تواجهت فيها أطروحات مختلفة، سيقرر الجميع بناء على اتفاق مشترك عقد نوع من الميثاق في ما بينهم… كان جسرٌ، إذا جاز لي التعبير، قد مُدّ بين ملوية ومدجردة واصلا بين أراضي شكّلها ووحّدها العرق والدين والثقافة واللغة والتاريخ والجغرافيا منذ آلاف السنين في مرتبة كيان وطني. هؤلاء الشمال‐إفريقيون، ومنذ سقوط الموحدين، كانوا قد أخذوا مأخذ الجد المشكل الذي كان مطروحا عليهم بكل ما ينطوي عليه من خطورة ومن تحذير ومن أمل… مكتب المغرب العربي سيسُمعِ صوت إفريقيا المضطهدة…”
خامسا، هكذا إذن، بعد سبع وثلاثين سنة من الغياب، يعلن الحمامي من مصر نظريته الشهيرة عن “الأمة المغاربية”. ومنذ إنشاء الجامعة العربية (22 مارس 1945)، ستكون القاهرة أرض استقبال لعدد مهم من اللاجئين السياسيين المغاربيين.
إلى جانب المغاربة، كان التونسيون يشكلون المجموعة الأهم؛ فقد وصل بورقيبة (26 أبريل 1945) متبوعا بعدد آخر من اللاجئين التونسيين الأعضاء في حزب الدستور الجديد ابتداء من يونيو 1946 كان من بينهم الدكتور حبيب ثامر، الطيب سليم، هادي سعيدي، حسين التريكي ورشيد إدريس. أما من جانب الدستور القديم، فنجد محي الدين قليبي.
من الجزائر لا نجد سوى عنصرين أو ثلاثة، وفي المقدمة الشادلي مكي ممثلا ل “مصاليي” 1945 [مصالي الحاج]. وكان يجب انتظار حتى بداية 1950 لنرى قادمين جددا منهم.
ونجد من المغرب علال الفاسي الذي التحق بالقاهرة في 25 ماي 1947، محمد بنعبود الذي لحقه (أو سبقه)، محمد الفاسي، عبد الخالق الطريس، محمد بلمليح، عبد المجيد بنجلون ومقيمين آخرين من الطلبة كعبد الكريم غلاب. كما نجد طبعا الأمير عبد الكريم الخطابي (31 ماي 1947)، وعلى الحمامي ابتداء من نهاية يونيو من نفس العام.
ومع كل التحفظات الواجبة، ورفضنا السقوط في عقد مقارنات متعسفة، نستطيع أن نسجل في ما يخص نجمة الشمال الإفريقي ذات التوجه المغاربي التي كان أغلب أطرها من الجزائريين في فرنسا عند تأسيسها، مقارنة مع مكتب المغرب العربي الذي كان يسعى وراء نفس الأهداف، أن الجزائريين كانوا ضعيفي التمثيل في القاهرة قياسا بزملائهم التونسيين والمغاربة الذين كانوا مهيمنين كميا وكيفيا. وبالإضافة إلى مسألة الأحجام هذه، كانت مطروحة أيضا مسألة الأوزان؛ فقد كان ثمة عدد وافر من “ذوي الرتب العليا” من التونسيين والمغاربة..”كولونيلات” و”جنيرالات”، بفرق عسكرية داخل بلدانهم أو بدونها، وذلك، إلى الحد الذي وضع عبد الكريم الخطابي أمام صعوبات جمة في إيجاد مواقع لعلال الفاسي وعلي الحمامي ضمن تشكيلة المكتب.
كان ذلك ما “منح” على صعيد آخر للشاب علي يعتة فرصة السجال، في جريدة “أمل”، لسان حال الحزب الشيوعي المغربي (عدد دجنبر 1948) حيث كتب يقول: ” إن مستقبل بلادنا سيتقرر هنا على أرضنا، فعبد الكريم قرر أن يتوقف عند حدود القاهرة بدل أن يطالب، كما قمنا نحن بذلك، ونستمر في القيام به، بحرية أن يعود ويعيش ويناضل في موطنه الذي ولد فيه. وإنه من أجل هذه الغاية بالذات رأت النور بالقاهرة، الشهيرة “لجنة تحرير إفريقيا الشمالية”، بعيدا عن الشعوب المعنية، والمشكّلة من أشخاص فضلوا أن يهاجروا ويغتربوا بمحض إرادتهم. لجنة، لن تكون لها بالنتيجة أية فعالية”.
بداهة، لم يكن الشيوعيون المغاربيون ضمن موقعي أول بيان تصدره لجنة عبد الكريم، والذي كان قد ترك الباب مشرعا أمام انضمام أي حزب لم يمثل بعد. “لقد كاتبنا الأحزاب الأخرى طالبين منها موافقتها النهائية على تشكيل اللجنة، ومصادقتها على ميثاقها، وكذا تعيين المندوبين الذين يتعين عليهم تمثيلها رسميا في حظيرة اللجنة”. ربما كان عبد الكريم يقصد الجزائريين وخصوصا حزب البيان لفرحات عباس وأيضا المصاليين وممثلهم “العنيف” الشادلي مكي الذي قاوم في سبيل عدم التوقيع على ميثاقها.
علي الحمامي، المسألة العمالية
والحركة النقابية المغربية
كتب الحمامي في العشرينات، عددا من التقارير والمقالات حول وضعية العمال المغاربيين في فرنسا. وشرع ابتداء من 1948، وهو في القاهرة، يتابع أولا بأول تجربة تونس، البلد الوحيد الذي تميز باحتضانه حركة نقابية قوية جدا هي الاتحاد العام للعمال التونسيين وقائدها فرحات حشاد، والتي كانت نموذجا يحتذى بالنسبة للوطنيين المغاربة.
في هذا الإطار، وبطلب من علال الفاسي وحزب الاستقلال، سينجز الحمامي دراسة بمثابة خارطة طريق حول وضعية الطبقة العاملة وحول آفاق التطور المتاحة للحركة النقابية المغربية.
سيحلل في قسم أول السياسة العامة للكنفدرالية العامة للشغل الفرنسية (سي جي تي): “…إن سياسة س.ج.ت إزاء العامل الأهلي تخضع لعاملين: قوانين الإنتاج في المستعمرات، وهي تخضع لنظام معين (شرحناه في طالعة هذا الفصل) [من جهة]، وأجور العمال [من جهة أخرى]، حيث يتم اتباع نهج تمييزي بين العامل الفرنسي وزميله المغربي، وهو ما نرى نظيرا له حتى في روسيا، كما عاينت ذلك بنفسي. وعلاوة على ذلك، فالإدارة الفرنسية تؤيد وتشجع العامل الفرنسي في الشمال الإفريقي، وترى فيه قوة ثمينة لمساعدة الاستعمار، فتقدم له امتيازات لا تكون إلا على حساب العامل المغربي مما يشكل نوعا من الأرستوقراطية الاستعمارية ذات الصفة الميركانتيلية المبتذلة. وكان ماركس قد سمى ذلك بمضاعفة الريع الاستعماري (…). ونزيد على هذا أن مواثيق العمل التي يدين بها النقابي الأجنبي لا قيمة لها من جهة الواقع (…) مادام عمالها الفرنسيون قد اقتنعوا وقبلوا وضعية الامتيازات التي منحت لهم (…) وهذا كله يفرض على عمالنا أن يعتمدوا على أنفسهم، ويطالبوا بالحقوق التي لهم، ضمن نقابة متحررة من جميع التأثيرات الاستعمارية، المباشرة وغير المباشرة”.
في القسم الثاني من التقرير، وبناء على الخلاصة التي توصل إليها سابقا، سيوصي الحمامي حزب الاستقلال بوضع “سياسة عمالية مقدودة”، في إطار الدائرة الوطنية…يعني سياسة نقابية مثل سياسته الاقتصادية والثقافية…وكتب قائلا: “نحن نعيش في عصر التكتل، لذلك يجب أن يُوجَّه الكل لغاية واحدة وإلا وقعنا في الفوضى، أي الفشل المحقق. إن حزبا لا يكتل كل مجهوداته المبذولة لفائدة مجموع الحياة الوطنية، سيصبح بذلك حزب طبقة. وهذا الأمر إن صح في بلاد حرة، فهو لا يجوز في بلاد مستعبدة. يجب أن يصرف مجهود الأفراد كلهم للتحرر. وحين نتكلم عن الوحدة الوطنية، يجب أن نفهم منها حشد جميع القوى في الاتجاه الوطني الديمقراطي بالنسبة للكل، وبالأخص، بالنسبة للجماهير الواسعة.”.
“أفاض الحمامي في شرح ملاحظاته عن الحياة النقابية المغربية، وختم تقريره بهذه الجملة المحتوية على برنامج كامل ودقيق: “لا نقابة في شمال إفريقيا دون تركيز وطني، ولا وطنية أيضا بدون نقابة موازية”.
أحببت أن أقتضب هذه الجمل، يقول علال الفاسي، من تقرير الحمامي المهم، لأنها خير دليل على مقدار ثقافته الواسعة وتفكيره المغربي العميق. وقد دلت التجارب الأخيرة على صدق كثير من ملاحظاته؛ فقد رأينا كيف رفض العمال الأجانب التضامن مع العملة المغاربة في إضرابهم الأخير بمعمل السكر بالدار البيضاء (كوزيمار).
في الأخير، يختم علال الفاسي بالقول: “هو احتفظ بعداوة حميمية لكل نظام رأسمالي، وكان يعتبر استغلال الإنسان للإنسان من أشد أنواع الجرائم التي يرتكبها ابن آدم، ويعتبر التضامن مع المستضعفين مهمة إنسانية جديرة بكل تقدير. وقد يكون لحياته في فرنسا وألمانيا وخصوصا في موسكو أثر لهذه العداوة، ولكن الذي لا شك فيه أن ما رآه من حالة المجتمع العراقي والحجازي وغيرها من بلاد الإسلام، زاد في تقوية هذه العقيدة في نفسه. كان الحمامي يعطف على البروليطرية، ولكنه هو نفسه كان يحيا حياتهم، إذ كان حقيقة زاهدا لا يتطلب أكثر من القوت”.
حادثة كراتشي
والنهاية التراجيدية لمناضل ثوري كبير
من أجل الحرية والاستقلال
كتب الزعيم التونسي محي الدين القليبي بحرارة وحرقة يقول عن الحمامي: “أرثي هذ الشهيد وأبكيه من بين شهداء الحادث الجلل… ومن بينهم المواطن والصديق، لأني أعتقد أن لكل منهم وطنه، وفي وطنه جماعته وحزبه وعائلته، فلا يعدم من يشيد بذكره ويعدد للناس فضائله.
أما الأستاذ علي الحمامي، فوطنه فكرته وعقيدته وضحايا الطغيان الاستعماري المشردون في أنحاء الأرض، هم حزبه وجماعته وعائلته، هم الذين ألفهم وألفوه وعرفهم حق المعرفة وعرفوه، واطلعوا على ما في أعماق نفسه فقدروه…فأنا أبكي من لا أحد يبكيه وأرثي من ربما لا يجد من يرثيه وفاء لحق الصداقة والأخوة وتقديرا لمزايا وخصال هذا الرجل العظيم الذي فقده المغرب الإسلامي في هذا الظرف الحرج الدقيق…لم يكسب ثروة في حياته إلا مرة اقتصد فيها أربعين جنيها وطبع بها كتاب “إدريس”، وله مؤلفات أخرى عجز عن طبعها…كان يكره الشهرة ويأبى أن يذكر اسمه تحت مقالة أو تنشر صورته لدى تصريح أو ينعت بمجاهد أو زعيم…”.
حاولنا، عبر شهادات مصالي الحاج وشكيب أرسلان، والشيخ القليبي، وخصوصا علال الفاسي، وأخيرا شهادة الوطني الجزائري فرحات عباس (أنظر أدناه)، أن نركب، عبر “بورتريهاتهم”، “بورتريها” آخر، أحْدَث، أرجو أن يكون على قدر من الاكتمال في التغطية المتقاطعة لمختلف أوجه هذا الرجل…ثمة بكل تأكيد مناطق ظل ماتزال قائمة. ولكن، ليسمح لنا، بعد كل هذا، ونحن نشرف على الختم، أن نتساءل مرة اخرى: من هو الحمامي، ومن كان بين 1947 و 1949؟ ما كانت قناعاته الإيديولوجية ورؤاه السياسية وبرامجه الحزبية؟
-على المستوى الشخصي: كان في التاسعة والأربعين من العمر، أعزبا متصلبا. كانت له أخت بالأسكندرية. ولا نعرف على وجه التحديد متى توفي أبواه. ليس له شغل بالمعنى المهني، فهو كان قد غادر منصبه في إدارة التعليم ببغداد، وجمع أمتعته متوجها إلى القاهرة، حيث سيعيد الارتباط إلى حد ما بالشغل بفضل صداقاته المصرية القديمة كمترجم لغات في المجال القانوني بمكتب أحد المحامين، قبل أن يتدخل عبد الكريم الخطابي لإدماجه في الميزانية كمتفرغ بصفة سكرتير خاص للأمير، وذلك في إطار الميزانية العامة للجنة التحرير.
-على المستوى السياسي والإيديولوجي: في بغداد، كان هذا المنفِي/الأباتريد قبل كل شيء ثوريا، “منفردا” و”مستقلا”.
هو أولا مناهض للفاشية والنازية، بخلاف عدد من القوميين العرب في الشرق الأوسط… وهو مناهض للفرنكاوية، بخلاف عدد من الوطنيين المغاربة في منطقة الشمال. “ثلاثون ألفاً من المغاربة سقطوا ضحايا في اسبانيا بين 1936 و 1939. ونحن اليوم نتساءل عمّا وعمّن ألزمنا بكل هذا الهولوكوست (…) وبكل هذه التضحيات لفائدة قضية ليست قضيتنا”، سيقول الحمامي بمرارة عام 1947.
وهو كان أيضا شيوعيا مناهضا للستالينية، وفاء منه، ضمن أمور أخرى، لأصدقائه الأقربين: زينوفييف الذي أعدم في 25 غشت 1936، وموزينبيرغ الذي “انتحر” في 22 أكتوبر 1940، ورفيق دربه، الفرنسي بيير سيمار، الذي اغتاله النازيون في مارس 1942…
هذه الفواجع كلها، ستهزه هزا وهوما يزال حينها في بغداد.
لن يتبقى له، لحسن حظه طبعا، سوى رفيقه هوشي منه. سيعيد ربط الاتصال معه، عندما كان مشرفا، كسكرتير، على المراسلات التي ترده من كل العالم بما في ذلك مراسلات هوشي منه نفسه الموجهة لعبد الكريم الخطابي…وفي هذا الإطار العام، سيشجع الحوار مع الشيوعيين المغاربة حول المسألة النقابية، وسيساجل الشيوعيين الفرنسيين حول المسألة الجزائرية (“شعب في طور تكون”، “الاتحاد الفرنسي”…إلخ…)، وسيطلق حكمه عليهم ك”ديمقراطيين مزيفين على ضفاف نهر السين”.
-في ذات الفترة (1947-1949) سيصبح الحمامي، وهو في القاهرة أكثر حركية، وسيسترجع كل الجهوزية العملانية لعمله السياسي لسنوات 1920 و 1930. كان قبل كل شيء، “نصيرا لعبد الكريم ومنتميا “للعبد الكريمية”، وحريصا، كما عبد الكريم على أن يتعالى على نزاعات الأحزاب المغاربية. هذا عباس فرحات، الوطني الجزائري يكتب قائلا: “عندما استقرت وفود شمال إفريقيا في القاهرة، اتصلت بعلي الحمامي تطلب مساعدته الذي كان قد أصبح تقريبا مستشارا، ليس فقط بالنظر لثقافته الواسعة، بل أيضا لخبرته ومراسه الكبيرين. كان فوق الأحزاب… كان فاضلا ونزيها، وكان شديد الكره للازدواجية”.
كان علي الحمامي يعتبر أن حزبه هو ذاته حزب عبد الكريم. لكن ذلك لم يمنعه من الدخول في تجربتين تنظيميتين مغايرتين عندما أتم شكليات العضوية في حزبين اثنين هما على التوالي حزب الاستقلال وحزب فرحات عباس (الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري) في ذات الآن: أي في 1948 بالنسبة للأول وفي منتصف 1949 بالنسبة للثاني.
أما هدفه من كل ذلك، فكان في ظني هو خلق تيارات فكر وعمل داخل الحزبين؛
بالنسبة لحزب الاستقلال، كان الهدف فتح نقاش حول المسألة النقابية، حتى يقوم هذا الحزب كحزب جماهيري، ومن جهة أخرى دفعه لخلق مركزية نقابية وطنية.
وبالنسبة للاتحاد الديمقراطي، كان الهدف خلق تيار واسع ضد “الإدماج”، ومقاومة “الاتحاد الفرنسي” الذي دافع عنه الشيوعيون الفرنسيون، وإعادة موضعة الجزائر في إطار المشروع العام لاستقلال المغرب الكبير، والتنسيق مع “المصاليين” و”جمعية علماء المسلمين الجزائريين”.
ولد حمامو، الرزيني (خلال فترة حرب الريف)، علي الريفي، علي حمامو، الرفيق علي، الرفيق ع، أو علي الحمامي (مناضل الأممية)، المراكشي، أو علي المراكشي (في بغداد والشرق الأوسط)، الواسطي أو الدزايري (خلال الهجرة بفرنسا) … تلك كلها أسماء حملها الحمامي أو ألصقت به. أما هو فكان يفضل اسم على الحمامي المغربي. يقول الشيخ التونسي محيي الدين القليبي: ” إنه كان يؤمن بوحدة المغرب من حدود مصر الغربية إلى ضفة المحيط”. ويقول علال الفاسي: ” كان الحمامي يؤمن بهذه المغربية(المغاربية) أكثر من كل إيمان آخر وكان يقول إنه ليس هناك فرق بين أنحاء المغرب كله..”
ذات هذا الشعور يشاطره عبد الكريم الخطابي. ففي وقت تدويل قضية المغرب (الكبير)، سيتلقى دعوة ليترأس المؤتمر الإسلامي الذي كان يفترض أن ينعقد في كراتشي بالباكستان. وكان أن طلب من الحمامي أن يمثله بهذه الصفة كرئيس للوفد، وكممثل شخصي له وهو البارع في اللغات الأجنبية مع محمد بنعبود وحبيب تامر، وليس كممثل لا لمكتب لجنة تحرير المغرب العربي ولا لمكتب المغرب العربي. كان موضوع مساهمة حمامي هو نزع ملكية أراضي الأحباس، من طرف السلطات الاستعمارية في المغرب الكبير، وهو الموضوع المناسب لتعبئة المسلمين ضد المستعمر. وأمام عجز ممثل الجزائر في لجنة المغرب، سيمثل الحمامي الجزائر أيضا.
في الدواخل العميقة لهذا الأممي، الكوسموبوليتي، الأباتريد، العابر للانتماءات “الوطنية”، والقابل لأن يحمل أية جنسية، ويستوطن أي مصر من الأمصار، سيتحرك مع ذلك شيء ما، أشبه بنداء يأتيه من بعيد، فيكتب:
“ما من سبيل أمثل للمرء ليتعلم معرفة بلاده سوى عندما يكون مغتربا بعيدا عنها في الخارج؛ فهي التربة الأصلية، حيث يرقد الأسلاف، وحيث اللغة الرشيقة والمتلعثمة التي ننطق بها أولى كلماتنا، وحيث نفتح العين لتقبض على أول لون، وحيث يبدأ دماغنا شيئا فشيئا، وقد غدا نضيجا، في فهم نسيج المسرات والآلام التي شكلت تاريخ العائلة التي ننتمي إليها بكل ألياف جسدنا وروحنا” (إدريس، ص 73).
ولكن هذه البلاد، لن يكتب له أن يرى لون سمائها أو يشم رائحة تربتها مرة أخرى؛ ففي طريق عودته إلى القاهرة، ستتحطم الطائرة التي كانت تقله هو، ومحمد بنعبود والحبيب تامر، “الشهداء الثلاثة”، ممثلي المغرب العربي، يوم 12 دجنبر في منطقة كراتشي.
غال الحمام رجالنا الابرار فإذا بعهد ناصع يتوارى
قد دمر الموت المهاجم فيهم أملا حليلا ليته ما انهارا
أمل تعلقه عليهم أمة ضجت…وملت ذلها والعار
ماذا ألا يكفي العدا وجيوشهم وجموعهم …أنقاوم الأقدارا
يا للجهاد أعندما كثر العبيد اليوم بتنا نفقد الأحرارا
إنا فقدنا في الطليعة قادة كانوا مثالا يحتدى ومنارا
عاشوا وماتوا في سبيل بلادهم فبلادهم تبكيهم أكبار
وإذا البلاد استهونت بحماتها فمصيرها أن تضمحل بوارا
عبد المجيد بنجلون
13 يناير 1950
شكيب أرسلان
المحمدية 21 نونبر 2018
صدر بمجلة الربيع عدد 7
اخذناه من موقع المناضل (ة) : https://www.almounadila.info/archives/10679
Soyez le premier à commenter