*د. حميد بحكاك
مقدمة
عرفت أوروبا في العقد الأخير انتخابات تشريعية وطنية وأوروبية ورئاسية (فرنسا، إيطاليا، السويد، إسبانيا ….) وعكست نتائج هذه الانتخابات تقدم أحزاب اليمين بكل تلاوينها وتصدرها المشهد السياسي أمام تراجع أحزاب اليسار وأحزاب الوسط 1، مما أثار ردود فعل سياسية وفكرية وإعلامية محلية ودولية، وانطلق نقاش سياسي إعلامي وأكاديمي حول أسباب تنامي هذه الظاهرة وعودتها وتأثيرها على المشهد السياسي والحزبي الأوروبي حالا واستقبالا، بعد أن تمَّ « القضاء » عليها في الحرب العالمية الثانية حيث هزم الحلفاء « النازية الألمانية » و »الفاشية الإيطالية » خلال الحرب العالمية الثانية، ثم بدأت هذه التيارات والأحزاب اليمينية في الظهور منذ السبعينات في ظل هيمنة اليسار بكل أطيافه وأحزاب الوسط والأحزاب الليبرالية، وأمام تراجع اليسار خصوصا بعد سقوط جدار برلين سنة 1989 وانهيار المنظومة الاشتراكية عالميا وانعكاساتها على الطيف اليساري العالمي، بدأت هذه الأحزاب اليمينية تتقدم تدريجيا، ووجدت بيئة حاضنة لها، خلقتها الأزمات السياسية والاقتصادية الداخلية والبيئية والتحولات القيمية والثقافية والديمغرافية والتأثيرات الجيوسياسية لتحولات النظام الدولي من الثنائية القطبية (1945-1991) إلى الأحادية القطبية الأمريكية، إلى التعددية القطبية الآخذة في التشكل حاليا، وكذلك تأثيرات العولمة على سيادة الدولة الوطنية، ولمحاولة فهم هذا التحول السياسي ينبغي الرجوع إلى الوراء .
أولا: شيء من التاريخ
ظهر مصطلح اليمين أولا في فرنسا عندما كان يجلس المساندون للملكية المطلقة على اليمين داخل « المجلس الوطني التأسيسي » والمعارضون للملكية المطلقة يجلسون يسار المجلس، إثر النقاش الدائر حول الصلاحيات الممنوحة للملك « لويس السادس عشر » منذ الثورة الفرنسية سنة 1789 2 ، فكان مصطلحي اليمين واليسار يعكسان مواقف ومواقع سياسية اتجاه النظام القائم وطبيعته وصلاحياته، ثم تطور المصطلح وأصبحت له حمولة أيديولوجية واجتماعية، فأصبح اليسار يتحدد بانتمائه إلى الفكر الاشتراكي والشيوعي وتبني أيديولوجية « الصراع الطبقي » والدفاع عن الطبقات الاجتماعية وفي مقدمتها الطبقة العاملة، وينتمي إلى المحور السوفيتي (سابقا) أيام الحرب الباردة، حيث الثنائية القطبية الأيديولوجية بين الرأسمالية والاشتراكية التي كانت تحكم العالم، وبعد سقوط جدار برلين والمعسكر الاشتراكي سنة 1989 تراجع اليسار وخفَّت الحمولة الأيديولوجية لهذا المفهوم، وبقيت الحمولة الاجتماعية والطبقية وتطورت مع ظهور العولمة الرأسمالية والنيوليبرالية الاقتصادية الجديدة وظهرت حركات اجتماعية ضد العولمة الرأسمالية والليبرالية المتوحشة.
أما بالنسبة لـمصطلح « اليمين » فكان يطلق على الأحزاب المقابلة لليسار فكانت تعرَّف بضدّها إذ كانت تتبنى الليبرالية الاقتصادية واقتصاد السوق على المستوى الاقتصادي وتتبنى الديمقراطية والتعددية الحزبية على المستوى السياسي، فكانت الأحزاب اليمينية تعرف بنقيضها « اليسار »، ثم خضع مصطلح « اليمين » لنوع من التطور السياسي و التجذير الأيديولوجي مع التطورات التي عرفتها أوروبا، وفي مقدمتها قضايا الهجرة والهوية والأمن ورفض العولمة أو التخفيف من آثارها لصالح الدولة والسيادة الوطنية، ومواجهة التحولات الثقافية والقيمية التي تهدد الأسرة كالمثلية والإجهاض 3، مما يعني أن هذه التصنيفات والتسميات والاصطفافات في الفكر والسياسة ( يمين، يسار) ليست مصطلحات ومفردات ثابتة، فهي تعكس الموقف والموقع، وتتطور معانيها، تنكمش وتتمدد مع تطور الأوضاع والدول والأفكار والأيديولوجيات والأزمات والسياسات.
ثانيا: اليمين وتعدد التسميات والتصنيفات والعناوين
هناك إشكالية في تسمية وتصنيف هذه الأحزاب والتيارات اليمينية على تنوعها، إذ هناك التسميات الإعلامية والسياسية التي تطلق عليها من قبل الصحفيين والإعلاميين والسياسيين، أو يطلقها عليها خصومها ومنافسوها عليها كالفاشيون أو « ما بعد الفاشيون » و »النازيون الجدد » ولا يقبلها البعض منهم، ومنها « اليمين المتطرف » أو التطرف اليميني »، وهناك تسميات وتصنيفات الأكاديميين والباحثين التي تبدو « محايدة »، وتعتمد على مواقف وطروحات وخصائص الحزب اليميني وبرامجه السياسية والانتخابية حول قضايا الاقتصاد والديمقراطية ببعدها السياسي والاجتماعي والهجرة والقيم الأسرية والأخلاقية والهوياتية، وتدور بين يمين ووسط اليمين، ويمين اليمين أو تطرف يميني، ومع ذلك تبقى هذه التسميات والتصنيفات نسبية، فهذه الأحزاب لا تقدم نفسها على أنها « يمين متطرف » أو أحزاب عنصرية أو فاشية فهي تتحرج من هذه التسميات إلى حدود اليوم لأنها ترى في هذه التسمية نوعا من الشيطنة لدى الرأي العام تنقيصا لها وتشويها لحقيقتها، كحزب « التجمع الوطني » في فرنسا 4 ، كما أن هناك حركات شبابية على شكل ميليشيات، وتنشط في مواقع التواصل الاجتماعي وفي الشارع وترفع الشعار النازي كالصليب المعقوف ويطلق عليهم النازيون الجدد 5، وتكره الأجانب بشكل عام والمهاجرين بشكل خاص، والمسلمين بشكل أخص وتعتبر أحزاب « اليمين المتطرف » نفسها أحزابا وطنية وأصيلة وترفض المس بالسيادة الوطنية والهوية الوطنية والدينية والثقافية لمجتمعاتها وترى في الأجنبي عنصر تهديد لوجودها وأمنها ولكينونتها وخصوصياتها الثقافية والحضارية ونمط عيشها.
والعناوين والأسماء والشعارات السياسية والانتخابية التي تحملها هذه الأحزاب تعكس هويتها ومشروعها السياسي والمجتمعي، فعلى سبيل المثال في فرنسا الحزب المصنف « يمين متطرف » كان يسمى سابقا ب »الجبهة الوطنية من أجل فرنسا » في عهد مؤسسه « جان ماري لوبن » Jean-Marie Le Pen ، وغيَّر اسمه حاليا إلى « التجمع الوطني »، والحزب الأكثر يمينية وتطرفا ويصنف ك « يمين اليمين » والذي أسسه « إريك زمور » Eric zemmour هذا الحزب يحمل اسم « الاسترداد » reconquête (أي استرداد فرنسا من المهاجرين والأجانب الذين « استوطنوها »)، وفي فنلندا هناك حزب يميني متطرف اسمه « الفنلنديين الحقيقيين » les vrais finlandais، وفي إيطاليا « إخوان إيطاليا » أو « أخوة إيطاليا » الذي ترأسه رئيسة وزراء إيطاليا ميلوني جورجيا Giorgia Meloni ، وهذه التسميات تعكس البعد الهوياتي لها والمشروع السياسي والمجتمعي الذي تدعو إليه، كما تعكس الحملات الانتخابية وشعاراتها ورموزها وصورها هذه التوجهات الهوياتية والأيديولوجية، أما في أمريكا فكان شعار دونالد ترامب الانتخابي هو « أمريكا أولا »، والحزب الجمهوري الأمريكي تخترقه تيارات « اليمين المتطرف ».
فاليمين لشدة تنوعه أصبحت له تسميات وتصنيفات كثيرة كـــ « اليمين المتطرف » و »اليمين الشعبوي » و » اليمين الوطني » و » اليمين المحافظ » و « اليمين التقليدي » و »النازيون الجدد » و »الفاشيون الجدد » و » اليمينيون الوطنيون » و »المحافظون المتطرفون » و « المحافظون » و »المحافظون الجدد » » و » اليمين القومي » و »اليمين الراديكالي »، و »اليمين الهوياتي » وهلم جرا من الأسماء والتسميات والتصنيفات.
وهذا التنوع في تصنيفات وتسميات تيارات اليمين، يعكس طبيعة المشروع الذي يحمله فهو أكثر من حزب وبرنامج سياسي وانتخابي عابر، إنما يشكل مشروع مجتمعي سياسي واجتماعي وثقافي يحمل رؤية وفلسفة اتجاه الإنسان والأسرة والمجتمع، ويعمل على إعادة صياغة الدولة والمجتمع وفق رؤيته للماضي والحاضر والمستقبل، فهناك مثلا مطالب بإعادة قراءة التاريخ وإحياء أمجاد قديمة وإعادة الاعتبار لفترات وأحداث وشخصيات تاريخية تمت شيطنتها حسب راي « اليمين المتطرف » ( النازية في ألمانيا، ومرحلة فرانكو في إسبانيا، وتمجيد الاستعمار الفرنسي للجزائر وشمال إفريقيا)6 وبالتالي فهي أقرب إلى الحركات الاجتماعية منها إلى الأحزاب السياسية.
ثالثا: الخصائص العامة والمشتركة لتيارات اليمين
أمام هذه التصنيفات والتسميات المتنوعة والمختلفة، تشترك تيارات اليمين بأحزابه وتياراته في مجموعة من الخصائص العامة المشتركة، قد تجتمع بعضها أو أغلبها في حزب واحد وقد تتفرق بنسب متفاوتة على مجموعة أحزاب وذلك حسب خصوصية كل بلد وإشكالاته وثقافته السياسية وأجنداته الانتخابية، فحسب بعض الدراسات التي أجريت على أحزاب التطرف اليميني في أوروبا الغربية تم رصد خمس خصائص مشتركة وهي:
1 الطابع العنصري اتجاه الأعراق الأخرى والإيمان بتفوق الرجل الأبيض، ومعاداة السامية، وتبني نظرية المؤامرة فيما يجري حول العالم.
2 الخطاب الشعبوي وتقديس الشعب في مقابل النخب السياسية الحاكمة والفاسدة.
3 النزعة السيادية والوطنية مقابل الانتماء إلى الاتحاد الأوروبي والتشكيك في جدوى هذا الانتماء العابر للوطن.
4 الأصولية المسيحية أو التقليدانية ومعارضة القيم الليبرالية والحريات الفردية.
5 تبني مشروع مجتمعي له مفرداته ومفاهيمه ورؤيته يمنح لليمين شكلا جديد7.
وهذه الخصائص تنطبق على الأحزاب المصنفة « يمينا متطرفا » في مختلف القارات وبدرجات متفاوتة وكذلك الحكومات ذات التوجهات اليمينية، حتى أنه يمكن الحديث بشيء من التحفظ عن « أممية يمينية » على غرار « الأممية الاشتراكية » و »الأممية الليبرالية » التي تنتظم هذه التوجهات على المستوى العالمي، ويمثل البرلمان الأوروبي ساحة للتنسيق بين أحزاب اليمين في أوروبا، ويسمى الفريق اليميني داخل البرلمان الأوروبي بفريق » الهوية والديمقراطية » منذ 2019 بعد أن كان يحمل اسم « أوروبا الأمم والحريات » 8 ورغم التقارب الأيديولوجي والمواضيع المشتركة لتيارات اليمين، فإن بينها خلافات وتنافس حاد حول من يمثل « اليمين الحقيقي »، ففي فرنسا هناك تنافس حاد بين حزبي « التجمع الوطني » و »الاسترداد » حول من يمثل اليمين الفرنسي، وتقدما في الانتخابات الفرنسية الأخيرة 2022 بلائحتين مستقلين، ويعتبر قادة حزب « التجمع الوطني » أن حزبهم هو الأصل والحزب المنافس (حزب « الاسترداد ») مجرد نسخة، والناخبون الفرنسيون يفضلون الأصلي على النسخة9 .
وبجانب الخصائص المشتركة، تتباين هذه الأحزاب في الوسائل والمقاربات لمعالجة قضايا الهجرة وإدماج المهاجرين، والحريات الفردية والإسلاموفوبيا، كما أن مشاريعها وبرامجها وخطاباتها ذات طابع مركب فجلها أو أكثرها يتبنى الليبرالية على المستوى الاقتصادي فيما يخص توزيع الثروة واقتصاد السوق، و »المحافظة » على المستوى الاجتماعي فيما يخص الأسرة والقيم، و « الشعبوية والديماغوجية » على مستوى الخطاب اتجاه الشعب والقاعدة الانتخابية في مقاربتها وتقييمها للأوضاع والطبقة السياسية والمؤسسات السياسة والدولة.
(يتبع)
*باحث في علم السياسة والقانون الدستوري
hbihkak65@gmail.com
المراجع :
- 1ــــ Pierre Joigneau ; 80 ans après, l’ombre de l’extrême droite s’étend sur l’Europe
https://linsoumission.fr/2023/06/27/80-ans-apres-extreme-droite-europe/ 27 juin 2023
vu le 12 Octobre
2 – Droite et gauche : histoire d’un clivage politique, « Les dossiers » https://rb.gy/432xf vu le 12 octobre 2023
3 – Joëlle Brunerie Kauffmann: L’extrême droite et les femmes https://rb.gy/2act3 vu le 5 octobre 2023
4 – Anthony Berthelier: Le Rassemblement national est bien d’extrême droite, confirme le Conseil d’État… Sur demande du RN, 22 septembre 2023, https://rb.gy/cbkgp , vu le 5 octobre
5 – Entretien Par Magali Bourrel : Le néonazisme pose un réel problème en Allemagne », https://rb.gy/rh73f vu le 12 octobre 2023
6 -L’Allemagne d’extrême droite réécrit l’histoire du nazisme ; 26 septembre 2023 https://rb.gy/09tye vu le 5 octobre 2023
7 – Benjamin Biard : L’extrême droite en Europe centrale et orientale (2004-2019) Dans Courrier hebdomadaire du CRISP 2019/35-36 (n° 2440-2441), pages 5 à 70 https://rb.gy/cfkj3
8 – Valentin Ledroit : Les groupes du Parlement européen : Identité et démocratie (ID) https://rb.gy/thaoi ; 26.07.2023 vu le 23092023.
9 – Les électeurs préfèreront l’original à la copie »: Valérie Pécresse tacle Éric Zemmour sur son programme économique ; https://rb.gy/k1lv1 07/02/2022 vu le 5 octobre 2023
Soyez le premier à commenter