مسار مثير … تقديم لكتاب

يضم هذا الكتاب مجموعة من الحوارات التي سبق أن أجراها أحمد الحليمي في ظروف وسياقات مختلفة. وهي تتناول مساره الشخصي إلى جانب ما طبع مسار التزامه الحزبي من استقلالية منذ سن الشباب، ونضاله الاشتراكي ، والمراحل التي طبعت هذا النضال بما في ذلك مرحلة حكومة التناوب، إضافة إلى ما تتطرق إليه من جوانب مساره كإنسان .

إنك لتشعر بالمتعة عند قراءة هذه النصوص التي تمخضت عن وهج الفعل والعمل أحيانا، أو بمسافة عنهما أحيانا أخرى. وهي متعة تدعمها الأهمية الكبيرة للمعلومات التي تحتويها، وما تستبين من أبعاد رجل ميدان لديه قدرات على التحليل وتفكيك الرموز وفي هذا وذاك من عمق في المقاربات .

ومما يشد الانتباه هنا، بعض الجوانب المتعلقة بشخصية الكاتب وحياته كمناضل اشتراكي، ورؤيته للمؤسسات الوطنية وللمجتمع المغربي وتجربته الحكومية.

يملك أحمد الحليمي ثقافة عميقة كلاسيكية وعصرية متينة تغذت بالمؤلفات الكبرى في الأدب والموسيقى العربية والغربية وفي الفلسفة (كتب كارل ماركس، جون بول سارتر، ميشيل فوكو) والمسرح الذي شكل جانبا من أنشطته هواية وممارسة. كما  تغذت أيضا بمقومات تربية إسلامية تلقاها بحسب القواعد والأصول (دروس في “المسيد”، وفي المدارس القرآنية، حفظ القرآن، صلاة الفجر، التردد على الزاوية التيجانية…). وقد عمل على إثراء هذه التربية باطلاعه على مؤلفات بعض أعمدة الصوفية مثل الشيخ محي الدين بن عربي أو موسى بنميمون، فيما شغف في دراسات  لوي ماسينيون في التصوف الإسلامي وبالذات حول “شهادة الحلاج”. وكثيرا ما تبرز هذه المرجعية الدينية ذات النبرة الصوفية في هذه الحوارات من خلال من عرفهم أو عاشرهم في مراحل نضاله بالإتحاد الوطني لطلبة المغرب والإتحاد الوطني للقوات الشعبية، من شخصيات بارزة للسلفية بالمغرب مثل محمد العربي العلوي.

في ما يخص مساره السياسي، يوضح الحليمي أن القضية الوطنية ونفي الملك محمد الخامس في 1953 هما مصدر انفتاحه على الكفاح السياسي. وفي 1955، حيث سيصبح عضوا في حزب الاستقلال بعد تأديته للقسم بحسب القواعد والطقوس المعمول بها آنذاك داخل هذا الحزب الذي كانت تتزعمه شخصيات تاريخية مثل علال الفاسي على الصعيد الوطني، والحاج أحمد مكوار على صعيد مدينة فاس. ويؤكد الحليمي بهذا الخصوص : “أنا لم يتم انخراطي في الحزب باستقطاب من طرف أحد، ولكنني أنا الذي انخرطت فيه بمبادرتي الشخصية”.

ولعل الأمر يتعلق بمسار طبيعي ونموذجي للخيارات التي كانت متاحة أمام الشباب خلال خمسينيات القرن الماضي؟ إن عملية التنشئة الاجتماعية التي عاشها الحليمي، كما يتحدث عنها، تظل مطبوعة بميزة كبيرة، إذ أنه رغم ارتباطه القوي بالحزب، ظل منفتحا كشاب على الأحزاب الأخرى، محافظا على علاقات إنسانية جيدة مع مناضليها مطبوعة بالحوار بل وبتعاطف وتضامن معلن معهم : يذكر في هذا الصدد حزب  الشورى والاستقلال بزعامة بلحسن الوزاني، وأعضاء من الحزب الشيوعي بمن فيهم الشخصية البارزة للحركة الشيوعية المغربية  كما هو الحال مع الشخصية المتميزة ورمز الحركة الشيوعية المغربية في  فاس وأحد رموزها المتميز في هذه المدينة هو المناضل : “جوزيف ليفي”، وغيرهم… إلى درجة أن أصدقاءه في حزب الاستقلال أصبحوا يرتابون من هذه الاستقلالية المعلنة. ولكن، ومن منظوره الشخصي، فإن الالتزام الحزبي المنظم لم يكن ليعني أبدًا التبني الغير  المشروط لجميع مقاربات القيادة للقضايا المطروحة، وبالأحرى مباركة عمل من كان يسميهم في الأجهزة الحزبية بـ “الأباراتشيك” الذين لم يكن يكن لهم  كثيرا من التقدير.

على أن الحوارات التي تم تجميعها في هذا الكتاب تبين مدى اعتزاز أحمد الحليمي الصادق والأكيد بأنه كان مناضلا في حزب كبير هو الإتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي سيصبح الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والذي، للإشارة، لم يأخذ أبدا بطاقة عضويته رغم أنه كان، عدة مرات، عضوا في لجنته الإدارية وفي بعض السنوات في الكتابة الملحقة لمكتبه السياسي. والحالة هذه، أنه ترشح باسمه في الانتخابات التشريعية في 1977بإلحاح من عبد الرحيم بوعبيد، فيما سيرفض الترشح مجددا رغم إلحاح متجدد من هذا الأخير في1984 ، وضغوطات متكررة من أعضاء في المكتب السياسي…

لم تكن الانشغالات الفكرية غائبة أبدا وفي أي لحظة عن الأنشطة النضالية لصاحب الحوارات طوال مساره السياسي. ففي 1959، كان من بين أوائل المناضلين الذين انخرطوا في فرع مدينة فاس لـ “الجامعات المتحدة” لحزب الاستقلال حيث تعرف لأول مرة على المهدي بن بركة، وذلك قبل أيام من تأسيس الإتحاد الوطني للقوات الشعبية، وكان حينئذ منخرطا بحماس في مسرح الهواة. حيث شارك في إنشاء الفرقة الشهيرة : “هواة المسرح”. وعمل مساعدا للمؤلف والمخرج الفرنسي ثيو ليسوالطش، تلميذ فنان “الميم” المعروف مارسيل مارسو، على إخراج مسرحية باللغة الفرنسية. فيما قام هو شخصيا بإخراج مسرحية باللغة العربية مقتبسة من رواية  كلاسيكية حول سقوط الأندلس في ظل آخر ملوك بني نصر في غرناطة على عهد أبي عبد الله.

هناك مرحلة أخرى حاسمة في الحياة السياسية لأحمد الحليمي، وهي مرحلة الإتحاد الوطني لطلبة المغرب. إذ كان مسؤولا طلابيا على عدة مستويات ابتداء من  1959وذلك من كاتب مسير لفرع فاس إلى أن يصبح عضوا في اللجنة التنفيذية لنفس الاتحاد ثم نائبا لرئيسه في 1961 و1962. وعندما انفجر ما يعرف بمؤامرة 1963، كان ما يزال عضوا في لجنته الإدارية. وكان الإتحاد الوطني لطلبة المغرب آنذاك بمثابة “مجموعة مصلحة”، حسب تعريف علماء السياسة اليوم، لها تأثير كبير يطلب ودها غالبية الأحزاب اليسارية وقادتهم. كما كانت تحتل مكانة محورية في عملية التنشئة السياسية للشبان المغاربة الذين استطاعوا آنذاك الوصول إلى التعليم العالي. كانت عقيدته الأساسية داخل هذه المنظمة تنبني على كلمات أساسية هي : الاستقلالية، والتنظيم الديمقراطي، وإصلاح التعليم، ودعم حركات التحرر عبر العالم وفي إفريقيا بشكل خاص حيث نظم الحليمي وترأس اجتماعا للمؤتمر التأسيسي لـ ” الطلبة الأفارقة المنتمون للمستعمرات البرتغالية” في الرباط بغابة المعمورة في سنة 1962…

الحوارات مع الحليمي تأخذ شكل قصة تحتوي على مادة خام ثمينة، وعلى معطيات ذات أهمية كبيرة تقدم للقارئ رؤى وتفسيرات تتعلق بمحطات من الحياة السياسية المغربية انطلاقا من الاستقلال إلى غاية يومنا هذا، وخاصة تلك المحطات التي ظلت مبهمة نسبيًا لعامة الناس وحتى لذوي الإطلاع. لقد كانت للمؤلف علاقة قريبة جدا وأحيانا حميمية بفاعلين سياسيين كانت لهم مكانتهم في التاريخ السياسي للبلاد مثل المهدي بن بركة، والفقيه البصري، وعبد الرحيم بوعبيد، وعبد الرحمن اليوسفي، ومحمد بنسعيد، والمحجوب بن الصديق، وعمر بنجلون، ونوبير الأموي…، وكذا بمثقفين كبار مثل  محمد عابد الجابري، وبول باسكون وعبد الكبير الخطيبي…

هناك صفحات كاملة من تاريخ البلاد تبرز بقوة من خلال ما يقدمه هذا الكتاب عبر صفحات هذا لنص مثل الأجواء الداخلية الخاصة للحركة الوطنية، ونشأة الأمل الاشتراكي وتبلوره بالمغرب، وما عاشه من سراء وضراء، وكذا نقطة التحول التي شكلتها سنة 1975، وانتخابات 76 و 76 والقضية الوطنية…

ولا تقل أهمية أيضا تلك المقاطع الطويلة المخصصة لحزب الإتحاد الاشتراكي، وإيديولوجيته، وبرامجه،  وتنظيمه،  ونضاليته، وتحولاته على ضوء التغيرات التي عرفها المجتمع المغربي. وبخصوص هذا الجانب الأخير، يقدم لنا أحمد الحليمي تحليلا نادرا في الأدبيات السياسية حول المغرب : حيث يبين الروابط بين تحولات المجتمع المغربي، ومظاهر استمراريته وقطائعه وبين تطور الحزب.

كان أحمد الحليمي، على مدى عقود، ذلك المناضل الاتحادي الدائم والحقيقي الذي “لم يحصل أبدا على بطاقة الحزب”. من قلب الحزب كان يستمد طاقاته الأكثر عمقا وثباتًا. وهو حزب كانت له فعلا حظوة سياسية حقيقية وسط المجتمع المغربي. لكنه حزب لم يعرف، كما يشرح ذلك، كيف يهيئ الظروف الإيديولوجية والتنظيمية التي كان من الممكن أن تسمح بتحويل قوة جاذبيته إلى قوة سياسية منظمة.

الكتاب يستعرض العديد من مظاهر حياة الحزب. وتعتبر زوايا مقاربة الحليمي إضافة أكيدة بالنسبة للذين يرغبون في تصحيح أو تعميق معرفتهم بمسار هذا التنظيم الحزبي. ومن بين الصفحات المعبرة هنا تلك المخصصة لـ “التقرير الإيديولوجي” الشهير للحزب، والذي كان الحليمي، إلى جانب عمر بن جلون ومحمد عابد الجابري، أحد مؤلفيه. وهي صفحات تشهد في  نفس الوقت على قدراته على البناء النظري، والأيديولوجي والسياسي، فضلا عن قدرته على إلقاء نظرة سوسيولوجية على الوقائع المغربية .

على صعيد آخر، وعلى المستوى التنظيمي المحض، يبرز أيضا ما كان يسميه بـ “التحديات الأربعة الكبرى” التي كان يعتبر أن على الحزب مواجهتها ومنها : استعادة تملك تاريخه، والعلاقات مع المنظمات الموازية وغيرها (منظمات الشباب، والنساء، والمنتخبين…)، ومعايير تمثيلية الحزب، وإشكالية استمرارية الفكرة الاشتراكية على المدى الطويل …

هناك أيضا عناصر مضيئة لا تقل أهمية  تظهر عند منعطفات المواضيع والتحاليل الواردة في الحوارات ودائما دون ما أي حكم معياري من شأنها أن تقدم للقارئ دروسا واستنتاجات قيمة حول حكومة التناوب والفترة التي سبقتها، وحول حرارة أو برودة الأجواء داخل حركية النضال الاشتراكي، وكذا حول فن التجمع والتواجد وسط المناضلين الاشتراكيين، دون ما إقصاء وفي كل ذلك بعيدا عن أي حكم معياري على أي شخص كان .

تجربة حكومة التناوب التي يفضل أن يسميها بـ”حكومة التوافق”، وهو موضوع  مركزي في الكتاب، تظهر في نهجه العام لأحمد الحليمي وكأنها بمثابة تتويج لمساره الشخصي وثمرة، على المدى البعيد، لإعادة بناء الحزب .

كان أحمد الحليمي قد عاش تجربة إدارية طويلة. إذ شغل منصب مدير الدراسات السوسيو اقتصادية بالمكتب الوطني للري حيث أنجز دراسته المتميزة آنذاك حول الحقوق التقليدية للمياه في إطار تهيئة الحوض المائي لمنطقة “تاساوت”. ثم مكلفا باستصلاح البنيات الاجتماعية والوضع القانوني للأراضي في هضبة فاس – مكناس في إطار تهيئة حوض نهر سبو، قبل أن ينضم في 1968 – 1969 إلى القرض الفلاحي مع قيامه، من حين لآخر، بمهام استشارية كخبير في القضايا المؤسساتية في إفريقيا والعالم العربي لفائدة مركز الاستثمار التابع لمنظمة الأغذية والزراعة العالمية، والبنك الدولي، أو الصندوق الدولي للتنمية الفلاحية. وهي أنشطة مهنية لم تمنعه من أن يتولى، بنشاط، مسؤولياته السياسية على أعلى المستويات داخل الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وخاصة إلى جانب الكاتب الأول للحزب عبد الرحيم بوعبيد، ثم إلى جانب عبد الرحمان اليوسفي، أو من دعمه المتواصل وتأطيره الفكري لأنشطة “الشبيبة الاتحادية” و للنضالات النقابية للكونفدرالية الديمقراطية للشغل. حيث كان مقررا للجنة الوطنية للاتحاد الاشتراكي المكلفة بمواكبة هذه النضالات.

ولا حاجة هنا إلى التذكير بالموقع الوزاري الاستراتيجي الذي سيتولاه لاحقا والذي هو معروف لدى الخاص والعام.

لقد كان لديه دائما جواب واضح وصادق على سؤال عادة ما يطرح على جميع أولئك الذين ينتقلون من موقع المعارضة الثابتة إلى التدبير المباشر للشأن الحكومي. بحيث كان دائما يتبنى، بصدق وصفاء، الخيار الإصلاحي، ويتحدث بشجاعة نادرة عن هذا الخيار الذي سيؤدي إلى تشكيل حكومة التناوب التي شارك بنشاط كبير في تشكيلها. وفي هذا السياق، ساهم بشكل كامل في تحقق هذه التجربة وفي تأطيرها سواء على الصعيد النظري أو الفلسفي أو السياسي. واستثمر فيها انشغالاته الأساسية التي يعبر عنها في العديد من صفحات الكتاب .

إن التموقعات التي تبناها خلال تلك الفترة يصبح لها معاني أوضح على ضوء هذا الكتاب. وكانت الانشغالات الحكومية لأحمد الحليمي تمس قضايا متعددة ذات دلالة على توجهاته ومنظوره الاستراتيجي لحكومة التناوب مثل التنمية،  والمقاولة،  والتعليم، والسياسات العمومية في علاقتها بالصناعة التقليدية، والاقتصاد الاجتماعي، والشباب، والمنافسة، ومحاربة الرشوة …

ويصف الحليمي بإسهاب مسلسل إنضاج التوجه السياسي الذي أدى بالاتحاد الاشتراكي إلى الطريق الذي انتهى بتشكيل حكومة التناوب .

لا تخلو أحاديث الحليمي، عند تفكيك المنطق العميق الذي أسس للتناوب، من إثارة قضايا تدبيرية دقيقة لها طابع حكومي محض، تعكس التدبير السياسي، بل تعكس حتى ذلك التدبير التقني المتعارف عليه. ولا تخلو أحاديثه من تقديم مبادئ تؤسس لنوع من الأخلاقيات الوزارية حيث يعبر، مثلا، عن معارضته الواضحة للإغراءات التي كانت تريد تحويل الحكومة إلى حكومة للأحزاب ” …

أحمد الحليمي يعمل، ولكنه يلاحظ ما يعمل، ثم يضع عمله موضع تفكير وتأمل. فهو يفكر في اللحظة الآنية، وفي العمل الجاري إنجازه عبر خلق المسافة الضرورية للتفكير، وعبر ربطها بالمعطيات الشمولية التي تتغير باستمرار .

وهكذا تحصل جدلية بين الفاعل الذي يشارك مشاركة كاملة، وبين عالم الاجتماع الملتزم والملاحظ للفعل. أحيانا، يسير هذان البروفايلان بصورة متوازية –  بروفايل الفاعل المناضل أو الفاعل المسؤول الحكومي من جهة، وبروفايل عالم الاجتماع من جهة أخرى – بحيث أن كل واحد منهما يحيل على الآخر، ولكن بدون أن يندمجا في بعضهما البعض. فالاثنان حاضران معا في ما يخص، مثلا، تلك الصفحات الغنية بالنسبة للتاريخ السياسي للمغرب المعاصر، وكذا في ما يخص “التقرير الإيديولوجي” للحزب، أو مستقبل الحزب، أو تحليل الحركات الاجتماعية التي عرفتها سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أو العلاقات المترابطة بين التطور الاقتصادي والاجتماعي للبلاد، وتطور الفكرة الاشتراكية والذين حملوا الفكرة، وكذا الأفكار المتعلقة بالمخزن، والدولة،  وبظاهرة الرشوة وغيرها…

إنه كتاب متميز بكمية ونوعية المعلومات التي يقدمها، وبالحكايات والتوضيحات والتقييمات التي يتضمنها مع وضعها في سياقها. كما أنه مهم أيضا من خلال مستوى الانسجام الكبير لمسار المؤلف، ومن خلال التزامه التام بدون تهاون وحتى نهاية المطاف. وهو كتاب متميز أكثر بالانفتاح الفكري الذي يطبع هذه الشخصية وبالتساؤل المستمر الذي كان دائما يتبناه .

عبدالله ساعف، يناير 2021

A propos CERSS مركز الدراسات 332 Articles
Administrateur du site

Soyez le premier à commenter

Laisser un commentaire

Votre adresse de messagerie ne sera pas publiée.


*