د. حميد بحكاك*
مقدمة
أصدرت الدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان وثيقة سياسية، وقدمتها خلال الندوة الصحافية بتاريخ 6 فبراير 2024، أمام ثلة من الصحافيين والشخصيات والهيآت المدعوة، يمثلون طيفا من ألوان الحقل السياسيوالحقوقي المغربي.وتمَ عرض الخطوط العريضة ومحاور الوثيقة والسياق والأهداف من إصدارها، وتخللت هذه الندوة طرح أسئلة وتساؤلات من قبل الصحافيين والحضور، في هذا المقال سنعرض لهذه الوثيقة بشكل مركز من خلال بعض العناوين.
1 في الوثيقة السياسية
جاءت هذه الوثيقة على شكل كتاب في 237 صفحة، موزعة على أربعة محاور تضم 777 إجراء أو مقترح،المحور التقديمي يحدد المنطلقات والأفق، والمحور السياسي تحت عنوان :”حرية وعدل وحكم المؤسسات” ويشتمل على 220 مقترح، والمحور الاقتصادي والاجتماعي تحت عنوان:”عدالة وتكافل وتنمية مستدامة” ويشتمل على 314 مقترح، والمحور المجتمعي تحت عنوان : “كرامة وتضامن وتربية متوازنة”ويشتمل على 243 مقترح.مما جعل الوثيقة تقترب من البرنامج الحزبي الانتخابي ولكن دون وعود وأرقام، كما تقترب من مشروع سياسيوأرضية مطروحة للنقاشمع من يعنيهم الأمر.
كما استعملت الوثيقة مفردات وخطاب سياسي ينهل من قاموس القانون الدستوري والنظام الديمقراطي بعيدا عن مصطلحاتومفاهيم اشتهرت بها الجماعةكالخلافةعلى منهاج النبوة، والحكم الجبري، والقومة … والتي أثارت كثيرا من الجدل والمخاوف، وهي مفاهيم ومصطلحات صاغها المرشد الراحل،ولم تتخلى عنها الجماعة بل أوَلتها لتتطابق مع الأشكال المعاصرة، فالخلافة على منهاج النبوةمثلا حسب الجماعة هي أفق استراتيجي يعني دول العالم الإسلامي وليس المغرب،كما جاء في تصريح الأمين العام لجماعة العدل والإحسان وكذلك الناطق الرسمي باسم الجماعة في مجموعة من الحوارات، كما تستعمل الشورى بجانب الديمقراطية، باعتبار أن الوثيقة موجهة إلى عموم المجتمع المغربي بمكوناته وتياراته المختلفة فكريا وسياسيا وأيديولوجيا ( إسلاميون ويساريون وليبراليون….).
وتمَإعداد هذه الوثيقة من قبل مكاتب دراسات وخبراء في الشأن الاقتصادي والاجتماعي والسياسي من داخل الجماعة على مدى أربعة سنوات كما جاء في تقديم الوثيقة أثناء الندوة الصحفية، والذي أعدَ الوثيقة هي الدائرة السياسية التي تأسست سنة1998والمتخصصة في قضايا الشأن العام، والتي يمكن اعتبارها “الجناح السياسي”للجماعة بجانب الهيآت والمؤسسات الدعوية والتربوية والقطاعات الموازية، نقابية وحقوقية ونسائية، وهذا يعكس تحولا على مستوى اتخاذ القرار إذ انتقلت الجماعة بعد وفاة مرشدها من الشخصنة إلى المؤسساتية وتكافؤ القيادات وتقاربها، نظرا للمساحة الواسعةوالمكانة الروحية التي كان تحتلها شخصية عبد السلام ياسين داخل الجماعة، وهذا ما يفسر تغيير اسم منصب قائدها من “مرشد” إلى “أمين عام” .
2 في السياق الداخلي والوطني
جاء إصدار هذه الوثيقة بعد أزيد من عشر سنوات من وفاة مرشد الجماعة الشيخ عبد السلام ياسين (توفي سنة 2012)،كرد على من يقول أن الجماعة كانت تعيش عل ما ينتجه مرشد الجماعة ومنظرها ومؤسسها وان موته سيخلف فراغا وتوقفا عن إنتاج المشاريع والأطروحات والمبادرات، وقد اعتادت الجماعة تقديم أوراق ومقترحات لما تراه تجاوزا وإصلاحا للوضع القائم، كحلف الإخاء سنة 2006 ، وجميعا من أجل الخلاصسنة 2007، وكلها أوراق ووثائق تروم تشكيل جبهة وطنية على برنامج حد أدنى من أجل التغيير، ثم تأتي هذه الوثيقة كامتداد لهذه المبادرات، وإشارة لكون الجماعة لازالت حاضرة كقوة اقتراحية مجتمعية، كما جاءت هذه الوثيقة كمبادرة لتجاوز الوضع القائم وما يطبعه من “تردي الأوضاع المعيشية، وتفشي الفساد، وانحلال الأخلاق، وإفلاس السياسات المتبعة وغيرها من المظاهر التي تعكس وصول بلدنا إلى حالة غير مسبوقة من الجمود والانحباس، مما يهددنا بانهيار عام -لا قدر الله- وتصدع شامل للنظام الاجتماعي” كما ورد في الوثيقة (ص 10 ).
وتأتي الوثيقة بعد انتخابات 8 شتنبر 2021،وتشكيل “حكومة الكفاءات”، و”خيبة أمل” من تجربة “حزب العدالة والتنمية”التي تراوحت بين الفشل والإفشال، والتي يريد البعض تعميم هذا “الفشل” على باقي مكونات الصف الإسلامي المغربي.
ولأول مرة تصدر الجماعة وثيقة تفصيلية بهذا الحجم، تبسط من خلالها رؤيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمجتمعية، كجواب على من يطالب الجماعة ببرنامج سياسي واقتصادي.
بينما رأى بعض المتتبعين لشأن الجماعة في إصدار هذه الوثيقة خطوة أوليةفي اتجاه إنشاء حزب سياسي، والقطع مع سياسة الانتظار والرفض والقطيعة، كما أن وفاة مرشد الجماعة الشيخ عبد السلام ياسين خلق فراغا فكريا وروحيا، نظرا لشخصيته الكاريزمية وإليه يرجع الفضل في تأسيس الجماعة تصورا وتنظيما، وأن هذا الفراغ سيؤثر على قواعد وكوادر وقادة الجماعية نظرا للرابطة الروحية مع المرشد، ويدفع بالتناقضات والخلافات الداخلية إلى العلن.
وفي إطار التواصل مع الرأي العام تم عقد ندوات وحوارات في موقعها الرسمي، وعلى قنوات اليوتوب( “موقع أشكاين”، “المغرب في أسبوع”، “صوت المغرب”، “هوامش” …..) استدعي لها أعضاء من الأمانة العامة للدائرة السياسية، لشرح الورقة والإجابة عن تساؤلات حول ما ورد فيها وما لم يرد فيها أو سكتت عنه وخلفيات وتوقيتها، والجديد فيها.
3 التمايز بين الدعوي والسياسي
من الإشكالات التي واجهت الحركة الإسلامية في عملها السياسي والحزبي في العالم الإسلامي، هو العلاقة بين الدعوي الحركي والحزبي السياسي، وهذه الإشكالية واجهت الحركات الإسلامية السلمية، التي لا تؤمن بالعنف كوسيلة للوصول إلى السلطة، ولأن المجال السياسي الحزبي مجال للصراع والاختلاف والتدافع مع الفرقاء السياسيين من مشارب فكرية وأيديولوجية مختلفة على قاعدة برنامج سياسي وانتخابي يصوّت عليه، بينما المجال الدعوي والتربوي مجال للإخاء والوحدة والتضامن ونبذ الخلاف والاختلاف، ومن هنا جاء تحديد العلاقة بين الدعوي والحزبي، بين الديني والسياسي، من القضايا والإشكالات التي تتطلب الحسم سواء في العلاقة مع السلطة أو مع الفرقاء السياسيين وعموم الشعب والمجتمع، والقانون المغربي يمنع قيام أحزاب على أساس ديني، فضلا على أن الجمع بين التمثيلية الدينية والسياسية منحصرة في إمارة المؤمنين، وتجربة “حزب العدالة والتنمية” في المغرب تقوم على التمايز الهيكلي والتنظيمي بين الدعوي والسياسي، إذ هناك “حركة التوحيد والإصلاح” التي تشتغل في المجال الدعوي والتربوي والمدني وهناك “حزب العدالة والتنمية” الذي يشتغل في المجال السياسي والحزبي، وتربطهما “شراكة استراتيجية” حسب تصريحات قيادة الهيأتينوأدبياتهما، ولا زالت العلاقة بينهما تثير كثير من النقاش بين الفينة والأخرى.( في مصر هناك “حزب العدالة والحرية” المرتبط بجماعة الإخوان المسلمون، وفي تونس تم فك الارتباط بين حزب النهضة وحركة النهضة،…..).
فهل تشكل الدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان نواة لحزب سياسي مستقبلا، ذلك ما راج عند تأسيسها سنة 1998، إلا انها لا زالت تشكل هيأة داخل الجماعة وليست مستقلة عنها، كما أن مسؤولو الجماعة لا يمانعون في تأسيس حزب سياسي إذا تغيرت الشروط السياسية والدستورية التي تمنعهم من ذلك حسب تصريحات قيادات الجماعة في مناسبات عديدة، ويرون في مآل تجربة بعض الأحزاب ( حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ثم حزب العدالة والتنمية ) دليلا على صوابية موقفهم من عدم المشاركة الانتخابية في ظل الوضعية الدستورية الحالية، وهو ما ترجمته الوثيقة السياسية في فقراتها تصريحا وتلميحا. كما يطرح التساؤل حول غياب الأمين العام للجماعة محمد عبادي أثناء تقديم الوثيقة التي قام بتقديمها رئيس الدائرة السياسية عبد الواحد المتوكل، هل هو بداية الفصل أو التمايز أو الجمع بين الوصل والفصل بين الدعوي والسياسي.
4 في الكتلة التاريخية وقاعدة “المبادئ فوق دستورية”
تطرح الجماعة نفسها من خلال هذه الوثيقة كطرف من الأطراف له رغبة في التغيير والإصلاح، وتقترح جبهة موسعة تجمع كل الأطياف السياسية والأيديولوجية على قاعدة برنامج حد أدنى، وترى أنه هو الطريق الصحيح لإحداث توازن في موازين القوى لصالح الديمقراطيةوالتغيير والإصلاح، وأنه لا يستطيع طرف بمفرده الانفراد بالتغيير مهما حاول، كما تطرح الوثيقة أن التغيير يجب أن يكون على مرأى ومسمع من الجميع وبإشراك الجميع بعيدا عن الكولسةوالنخبوية، وهو ما جسدته عملية إصدار الوثيقة علنا وعرضها وتوجيهها إلى عموم الشعب المغربي ومكوناته.
والوثيقة على غرار سابقاتها ( حلف الإخاء، جميعا من أجل الخلاص ) جاءتلطمأنة الفرقاء والقوى السياسية حول الخوف من اكتساح وهيمنة “جماعة العدل والإحسان” على الساحة السياسية أو الحزبية في إشارة إلى التجربة السياسية في مصر وغيرها حيث اكتسح الاسلاميون مؤسسات الدولة ( لجنة وضوع الدستور، مجلس الشعب ) عن طريق الانتخاب،واعتبار الانتخاب وصناديق الاقتراع هي الديمقراطية بعيدا عن التوافقات التي تقتضيها المرحلة او مراحل الانتقال الديمقراطي، وكذلك ما حدث أثناء تجربة حركة عشرين فبراير 2011 والخلافات التي حدثت داخلها بين مكوناتها الأيديولوجية ( اليسارية والعلمانية والإسلامية تحديدا)، من بينها اتهام الجماعة بالركوب أو السطو على الحركة أو اختطافها بحكم الوزن الجماهيري للجماعة، هذه الخلافات وعدم الاتفاق على سقف معين للتغيير يومهاانتهى بانسحاب الجماعة من الحركة، مما أضعفها جماهيريا .
ومن هنا جاء في اقتراح الوثيقة “صياغة ميثاق جامع عن طريق الحوار والتوافق، يعبر عن «الرؤية الاستراتيجية »التي يريدها المغاربة لبلدهم يمكن أن نصطلح عليه ب «وثيقة المبادئ فوق الدستورية” ” ( ص 38) .
5 مبدأية الشورى وآلية الديمقراطية
حدَدت الوثيقة كــأحد أهداف مشروعها السياسي “بناء نظام شوري” ثم شرحت العلاقة مع النظام الديمقراطي الذي هو مطلب الأحزاب والتيارات السياسية في المغرب، جاء في الوثيقة ” وكوننا نؤمن بأن الشورى هي روح الحكم وفلسفته في الإسلام، فإننا نؤمن في الآن نفسه بنجاعة الكثير من الآليات الديمقراطية وفاعليتها في تحصين الدولة والمجتمع من نوازع الاستبداد، وتحقيق التداول السلمي على السلطة، وما يرتبط بذلك من فصل بين السلط، ومنع تغول سلطة على أخرى، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وإرساء التعددية السياسية، وكفالة الحقوق والحريات، واحترام الدستور والقانون”( ص 25) ويبدو أن الجمع بين الشورى كمبدأ والديمقراطية كآلية هو خيار الجماعة بجكم مرجعيتها الإسلامية وما كتبه مرشد الجماعة حول “الشورى والديمقراطية” ( عنوان لأحد كتب عبد السلام ياسين )، وكما جاء في توضيحات أعضاء الدائرة السياسية أثناء تقديم الوثيقة، أن المهم هو مضامين النظام الديمقراطي بما يعنيه من فصل للسلط وربط المسؤولية بالمحاسبة إلى غير ذلك .
ويبدو أن هذه النقطة المتعلقة بالاكتفاء بالديمقراطية كآلية محط خلاف بين الجماعة ومع من يطالب بالديمقراطية كفلسفة وآلية، ويتحفظ على الشورى أو على مصطلح الشورى، بينما تشكل الشورى كتعبير عن “أصالة المصطلح الإسلامي”، نقطة تقاطع مع تيارات الحركة الإسلامية المغربية، والوثيقة السياسية موجهة للجميع .
6 خلاصة
تبقى مفاعيل هذه الوثيقة رهينة بالتجاوب والتفاعل معها، فهل ستعرف مصيرا كمصير المبادرات السابقة. من السابق لأوانه إصدار أي حكم أو تقييمعلى المدى القريب، بحكم حجم الوثيقة والقضايا المطروحة والسقف السياسي المرتفع الذي تضمنته والجهة التي أصدرتها، وبحكم الجفاف السياسي التي تعرفه المرحلة من حيث غياب النقاش العمومي الجاد والمسؤول، كما أن الساحة في هذه المرحلة تعرف ورشا له أهمية اجتماعية وهو تعديل “مدونة الأسرة” أو إصلاحها وعكست نقاشا إعلاميا وقانونيا وأيديولوجيا، واستقطابا بين مكونات المجتمع الحزبية والسياسية والحقوقية والنسائية.
*باحث بمركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية بالرباط
Soyez le premier à commenter