یتعلق الأمر في ھذا الصدد ب « معھد التنمیة الاجتماعیة » الذي یحتضنه « مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعیة ». وجدیر بالذكر أن المعھد افتتح أبوابه بمدینة الرباط انطلاقا من السنة الجامعیة 2019/2018 لتكوین أول فوج من الطلبة في تخصص « وكیل التنمیة الاجتماعیة، مدبر منظمات المجتمع المدني ». ولا یسمح المجال ھنا والآن بالتوسع في مضامین ھذا التكوین وأھدافه وفرص الشغل التي یمكن أن یوفرھا على المدى المتوسط. لذلك سیجري التركیز على مسألة بالغة الأھمیة تتجسد في ضرورة الربط بین التكوین، بشقیه النظري والعملي، وبین تقنیات البحث في العلوم الاجتماعیة وكیفیة الولوج إلى المیدان بالمعنى الإبستمولوجي للكلمة.
ومما لاشك فیه أن تَلَق ِّي الطلبة لحصص دراسیة أولیة حول علاقات مناھج البحث المیداني بالعمل الجمعوي في المجال التنموي، وتَعَر ُّفھم على أھم العلوم الاجتماعیة من حیث موضوعاتھا ومناھجھا؛ كل ذلك یَس َّر لھم الانتقال إلى التطرق لأبرز تقنیات جمع المعطیات الإمبریقیة كالملاحظة والملاحظة بالمشاركة والمقابلة والاستبیان. ویكمن بیت القصید ھنا في كیفیة اختیار الطلبة، بتأطیر من أستاذھم، للمیادین البحثیة المتنوعة التي سیشتغلون علیھا بمدینة الرباط طیلة فترة تكوینھم. ومن أبرزھا وأكثرھا دلالة: « ظاھرة الغناء والعزف في الشوارع »؛ « ظاھرة النساء اللواتي یبعن الخبز المغربي التقلیدي »؛ « ظاھرة التسول لدى مھاجرات دول جنوب الصحراء واللاجئات السوریات ». وحري بالتسجیل أن الذي یثیر انتباه الباحثین وفضول الناس بخصوص ھذه الظواھر، لیس جدتھا لكونھا معروفة ومألوفةعموما، ولكن المثیر فیھا حقا ھو بعض العناصر الطارئة علیھا كما سنرى.
ففیما یخص « ظاھرة الغناء والعزف في الشوارع »، فما یجعلھا مثیرة لیس جدتھا كما أشرنا، وإنما ھو منع السلطة لھا. ومن المعروف أن الظاھرة قدیمة بالمغرب، بحیث أن الساحات العمومیة حسب الباحث الموسیقي أحمد عیدون لطالما كانت مسارح في الھواء الطلق، كساحة « جامع الفنا » بمراكش وساحة « الھدیم » بمكناس وساحة ”باب الخوخة” بفاس، یمارس فیھا الفنانون الجائلون موسیقاھم. أضف إلى ذلك أن موسیقى الشارع كانت تتجسد أیضا في المواكب ذات الطابع الصوفي كـ « حمادشة » و « عیساوة » و » كناوة « . وعن لجوء السلطة إلى منع ھذا النوع الموسیقي، یرى الأستاذ عیدون أن للشارع سلطة: « وبالتالي، ھنالك نوع من المنافسة إن شئنا القول، بین ھؤلاء الشباب والسلطات حول امتلاك ھذه السلطة ». فالسلطات تعتقد أن ھؤلاء الموسیقیین یشكلون خطرا نوعا ما، خاصة أنھم یخلقون تجمعات بأعداد وفیرة أكثر مما تستقطبه المؤتمرات الحزبیة، وھو ما یخلق توجسا أمنیا.
ولإىجاب نھذاالإشكالیُطرح سؤال آخر یتعلق بوظیفة تلك الأنشطة الفنیة بین التعبیر والاستجداء: ھل الھدف منھا مجرد التعبیر عن أفكار ومشاعر وقیم؟ أم أنھا لا تعدو أن تكون شكلا من أشكال الاستجداء غیر المعلنة؟ أم أن ھذه الأنشطة الموسیقیة تجمع بین الحسنیین؟ نحن إذن أمام إشكالات یثیرھا التفكیر في ھذه الظاھرة، التي تتیح إمكانیة إنجاز بحوث میدانیة مھمة بصددھا.
أما « ظاھرة النساء اللواتي یبعن الخبز المغربي التقلیدي » بمختلف أنواعھ، فھي الأخرى معروفة ولیست بالجدیدة. إنما الجدید فیھا ھو اتساع رقعتھا واكتساحھا لأھم شوارع مدینة الرباط. فمن المعروف أن الظاھرة جد منتشرة في أزقة المدینة القدیمة وفي الأحیاء الشعبیة الموجودة على أطراف مدینتي الرباط وسلا. وھذا الانتشار للظاھرة ولمثیلاتھا المتعلقة بالتجارة غیر المھیكلة، أو ما یسمى بتجارة الرصیف أو « الفراشة »، من شأنھ أن یضع موضع شك الحدود الفاصلة بین المدینة القدیمة كفضاء یحتمل تَ كاُ ن الأنشطة التجاریة المھیكلة وغیر المھیكلة، وبین المدینة الجدیدة كفضاء للحداثة یستبعد تواجد الأنشطة المھیكلة وغیر المھیكلة جنبا إلى جنب.
من المیادین البحثیة الأخرى التي وقع علیھا اختیار الطلبة أیضا « ظاھرة تسول مھاجرات دول جنوب الصحراء واللاجئات السوریات » في مفترق الطرقات وأمام أبواب المساجد، الأمر الذي یطرح عدة أسئلة تتفرع عن معضلتین أصبح المغرب یعرفھما بحدة وتتعلقان بظاھرتي الھجرة واللجوء. أما العنصر المستجد في ھذه الظاھرة، فھو محاولات قلید بعض المغربیات للاجئات السوریة من أجل استمالة عطف الناس.
وصفوة القول إن ما یلفت النظر في ھذا السیاق أن الطلبة تمكنوا من القیام ببعض الاستنتاجات الأولیة بخصوص الظواھر المشار إلیھا آنفا، أھمھا تتعلق بمسألتین: إحداھما تخص تفشي ظاھرة الأنشطة التجاریة غیر المھیكلة وانتقال النشاط غیر المھیكل إلى المجال الفني؛ والأخرى تسجل تعاطي المرأة أكثر فأكثر لھذه الأنشطة غیر المھیكلة. كما أنھ بالموازاة مع اختیار جل الطلبة لمیادینھم البحثیة ومحاولاتھم الأولى من أجل ولوج ھذه المیادین، تجري أحیانا بعض المناقشات حول كیفیة وضع مشاریع تنمویة محلیة یمكن أن تساعد المعنیین والمعنیات بتلك الظواھر المدروسة على الانخراط في أنشطة جالبة للدخل مھما كانت بساطتھا، مادام المھم ھو صون كرامة الإنسان.
وعلى إثر الحصص الدراسیة الأولى التي تم خلالھا الربط بین ما ھو نظري وما ھو میداني ملموس، أسَر َّ لي أحد الطلبة بأنھ لم یكن یَفْقَھ أي شيء یُذكر في مادة مناھج البحث في العلوم الاجتماعیة التي كانت مقررة لدیھم في السنة الأولى بإحدى كلیات الحقوق. لذلك یبدو أن ھناك حاجة ملحة في المغرب لتعمیق التفكیر والدراسة حول مسألة مناھج البحث في العلوم الاجتماعیة. ولعل أبرز مظاھر ھذه الحاجة، ندرة الأدبیات المغربیة والعربیة المؤلفة المترجمة، وعدم مواكبتھا للمستجدات في المجال2. أضف إلى ذلك، أن معظم الجامعات والمعاھد المغربیة تسودھا على ما یبدو مقاربات شكلیة ومدرسیة لا تتجاوز مستوى التعریفات الماھویة لمختلف المناھج3، غیر مھتمة بتعلیم الطلبة كیفیة اختیار المناھج المناسبة لبحوثھم، وما یتطلبھ ذلك من تبریر عقلاني. فضلا عن عدم تدریبھم میدانیا على كیفیة استعمال تم الوقوف على ھذا الأمر أثناء قیامنا ببحث بیبلیوغرافي حول إشكالیة مناھج البحث في العلوم الاجتماعیة بالمغرب. و علىدّ علمنا، لا توجد أي مؤسسة جامعیة في المغرب تدرب طلبتھا میدانیا على أدوات البحث باستثناء « معھد الحسن الثاني للزراعة والبیطریة » الذي یقوم بخرجات تدریبیة میدانیة لطلبتھ. ویرجع الفضل في إرساء ھذا التقلید السوسیولوجي إلى الراحل « بول باسكون » عالم الاجتماع المغربي من أصل فرنسي.
أدوات البحث الإمبریقي كالملاحظة والمقابلة والاستبیان وغیرھا، والاكتفاء بالتعامل مع المناھج كقوالب جاھزة، ولیس كتوضیح لعملیات ذھنیة بسیطة ضروریة في أي تفكیر عقلاني. ومن عجیب المفارقات في ھذا الإطار تضخم الخطاب حول المنھج في تلك المقاربات في مقابل انعدام الحد الأدنى من مقومات الممارسة البحثیة العلمیة، كالإلمام النقدي بأدبیات موضوع الدراسة وجمع وتحلیل المعطیات الإمبریقیة اللازمة، وإعمال العقل تفكیرا و تساؤلا. ومن نافلة القول إن المنھج لا یجدي نفعا ما ل ی سندَ بقراءة نقدیة و تفكیرعقلاني وتساؤلات شخصیة متواصلة. وكلھا أمور من شأنھا أن ُمتك ّن الباحث، لیس فقط من إدراك قیمة أي منھج، بل ومحدودیتھ أیضا.
Soyez le premier à commenter