
د.حميد بحكاك
بعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي حملت « إمانويل ماكرون » إلى السلطة لولاية ثانية 2022 -2027 جاءت الانتخابات التشريعية لانتخاب نواب الجمعية الوطنية. في هذه الانتخابات يتم انتخاب 577 نائبا يمثلون 577 دائرة انتخابية لمدة خمس سنوات بالاقتراع العام المباشر، وتجري هذه الانتخابات في جولتين، الأولى في 12 يونيو 2022 والثانية في 19 من نفس الشهر حسب النظام الانتخابي الفردي الاغلبي عل دورتين المعمول به في فرنسا ، كما تجري بعد أسابيع من الانتخابات الرئاسية، حتى تتوافق الولاية الرئاسية مع الولاية التشريعية.
ويتمَ التصويت والانتخاب عبر وسائل متنوعة، عن طريق الصناديق والانترنت والمراسلة والوكالة الانتخابية بالنسبة الفرنسيين خارج التراب الفرنسي .
فكيف جرت هذه الانتخابات وما هي نتائجها الانتخابية والسياسية وتأثيرها على النظام السياسي لمدى السنوات الخمس المقبلة ؟
السياق الوطني و الدولي لهذه الانتخابات
على المستوى الوطني جرت هذه الانتخابات التشريعية بعد الانتخابات الرئاسية التي حملت الرئيس ماكرون إلى السلطة لولاية ثانية وهو ما يعني منحه الثقة لولاية أخرى، وعرفت الولاية الأولى كثيرا من الأحداث، منها جائحة كورونا التي قسمت المجتمع الفرنسي فيما يخض تدبيرها و مدى التجاوب الشعبي والمجتمعي مع الإجراءات التي اتخذتها السلطة لمواجهتها كإجبارية التلقيح والتباعد والحجر الصحي وجواز التلقيح والجواز الصحي، وكذلك عرفت الولاية الأولى للرئيس ماكرون احتجاجات اجتماعية لأصحاب « السترات الصفر » لعدة أسابيع بسبب الزيادة في ضرائب المحروقات، وما طرحته هذه الاحتجاجات من قضايا تتعلق بسياسة ماكرون بشكل خاص وما يتعلق بالنظام الديمقراطي الفرنسي فيما يخص الديمقراطية التمثيلية بشكل عام .
وعلى المستوى الخارجي والدولي تأتي هذه الانتخابات في ظرفية حرجة بالنسبة لأوروبا والاتحاد الأوربي التي ترأس فرنسا دورته الحالية، هذه الظرفية تتمثل في الغزو الروسي لأوكرانيا وما أفرزته من آثار اقتصادية كارتفاع أسعار الطاقة ( الغاز والنفط ) وارتباط ذلك بالاعتماد الأوربي على الغاز الروسي الذي استعمله بوتين كسلاح في إدارة معركته العسكرية ومواجهة العقوبات الاقتصادية، كما أثار هذا الغزو الروسي مخاوف أوروبية وأمريكية في إطار حلف الناتو وتوسيعه من خلال الانضمام إليه، وإعادة طرح مسألة الأمن الأوروبي والعسكري على طاولة النقاش والتقييم وآثاره الجيو السياسية على المنطقة الأوروبية، في ارتباط مع الموازين العسكرية بين الغرب وروسيا ومن ورائها الصين، بالإضافة إلى التأثير الداخلي لهذه الحرب على القدرة الشرائية للفرنسيين، التي شكلت أحد المحاور الرئيسية لبرامج الأحزاب المتنافسة .
الأحزاب والتيارات السياسية المشاركة
تقدم لهذه الانتخابات 6300 مرشح في 577 دائرة، وبلغ عدد الناخبين 48 مليون ناخب
شاركت الأحزاب السياسية في هذه الانتخابات بشكل منفرد أو عبر تحالفات وهي :
تكتل « معا » وهو تحالف يقوده ماكرون الذي يجمع كلا من حزب ماكرون الذي غير اسمه من » الجمهورية إلى الأمام » إلى « حزب النهضة« ، و حزب الأفق، والحركة الديمقراطية .
« الاتحاد الشعبي البيئي والاشتراكي الجديد » يقوده جون لوك ميلانشو، وهو تحالف يساري يضم كلا من الحزب الاشتراكي، و« فرنسا الأبية » ، والحزب الشيوعي الفرنسي، وحزب الخضر، ويصنف هذا التحالف كيسار راديكالي أو يسار متطرف في مقابل اليمين المتطرف .
« التجمع الوطني » وهو حزب اليمين المتطرف الذي ترأسه لوبن، وكان يحمل اسم الجبهة الوطنية إلى حدود سنة 2018 .
« الجمهوريون » وهو حزب يصنف في اليمين ووسط اليمين وكان يحمل اسم « الاتحاد من أجل حركة شعبية » إلى حدود سنة 2015 ليغير اسمه إلى « الجمهوريون » .
« الاسترداد » وهو حزب ينتمي إلى اليمين المتطرف بزعامة « إريك زمور » و هو حديث النشأة ( تأسس في 30 أبريل 2021 ).
تقدمت هذه الأحزاب إلى الانتخابات ببرامج تعكس توجهاتها السياسية وخياراتها ومقترحاتها وبدائلها للوضع القائم فيما يخص الشأن الداخلي الفرنسي ( القدرة الشرائية، التقاعد والمعاش ، البطالة، الهوية، الهجرة والمهاجرين، الأمن ….) أو فيما يخص العلاقة مع الاتحاد الأوروبي والسياسة الخارجية لفرنسا واصطفافاتها أوروبيا وأطلسيا ( في العلاقة مع السياسة الأمريكية)، خصوصا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وما فجره من نقاش سياسي وإعلامي وأكاديمي حول تداعيات هذه الحرب عسكريا واقتصاديا وسياسيا على فرنسا والاتحاد الأوروبي .
النتائج الانتخابية
أفرزت هذه الانتخابات عن النتائج التالية :
تحالف « معا » 241 مقعد ( موزعة كالتالي، حزب النهضة : 166 مقعد، الحركة الديمقراطية: 48 مقعد، حزب الأفق: 27 مقعد )
التحالف الشعبي البيئ والاشتراكي الجديد » 131 مقعد ( فرنسا الأبية :72 مقعد، الحزب الشيوعي : 12مقعد الحزب الاشتراكي :24 مقعد ، حزب الخضر : 23مقعد )
التجمع الوطني 89 مقعد
حزب الجمهوريون ( اليمين التقليدي ) 61 مقعد
وباقي المقاعد موزعة على تيارات أخرى ( يسار ويمين ووسط وغيرها )
قراءة النتائج
أسفرت هذه النتائج عن عدة ملاحظات واستنتاجات سياسية وانتخابية منها :
1 – نسبة العزوف التي عرفتها هذه الانتخابات والتي بلغت 54 % ( 57 % سنة 2017)، مما يعني أن هذه الانتخابات لا تهم سوى 46 في المائة من المجتمع الفرنسي المسجلين في القوائم الانتخابية، وهذه النسبة تضر بمشروعية وحجم التمثيلية للنظام السياسي والانتخابي الفرنسي، وهل هي مؤشر على أزمة ثقة لدى الفرنسيين في العملية السياسية والانتخابية، وهل نظام الجمهورية الخامسة في ارتباط مع الديمقراطية التمثيلية استنفذ أغراضه ولم يعد صالحا، كما يلوح البعض حول بضرورة القيام بإصلاحات دستورية والمرور إلى جمهورية سادسة ( جون لوك ميلانشو)، وهناك من يعزو هذا العزوف إلى تقارب تواريخ الانتخابات الرئاسية والتشريعية، مما يؤثر على حماس الناخب وفتور الحملة الانتخابية التي استنزفت في الحملة الانتخابية الرئاسية .
كما أن الحديث عن أزمة النظام الفرنسي ظهرت اثناء احتجاجات أصحاب السترات الصفراء، احتجاجا على رفع الضرائب على المحروقات، هذه الحركة التي اندلعت من الشارع وليست مرتبطة بأي حزب أو نقابة بل دعت بعض الأحزاب الفرنسية ( يمين ويسار ) أعضاءها للمشاركة فيها وتبنت بعض النقابات مطالبها، هذه الاحتجاجات أظهرت محدودية الأحزاب السياسية والنظام التمثيلي الفرنسي وفشل قنوات الوساطة في احتواء هذه الاحتجاجات الاجتماعية التي تهدد السلم الاجتماعي الفرنسي .
2 – كما حملت هذه الانتخابات مفاجآت متناقضة، منها عودة اليسار الراديكالي واليمين المتطرف في آن واحد، فقد حلَ اليمين المتطرف ثالثا بعد تحالف اليسار الراديكالي، مع ملاحظة أن « التجمع » الوطني حزب منفرد بينما تحالف اليسار هو تحالف لأربعة أحزاب يسارية, كما أن حصة التجمع الوطني انتقلت من ثمانية مقاعد ( سنة 2017 ) إلى 89 مقعدا في هذه الانتخابات، وهو ما اعتبرته مارين لوبن انتصارا تاريخيا، واستقطب هذا الانتصار اهتمام الباحثين والمحللين للشأن الداخلي الفرنسي .
3 – من المفاجآت أيضا هو سقوط حزب الاسترداد » la reconquête » وفشل زعيمه « إريك زمور » في الحصول على مقعد وانهزامه في الدور الأول من الانتخابات، ولم يحصل مرشحو هذا الحزب على أي مقعد، في حين شكَل هذا الحزب ظاهرة إعلامية واحتل زعيمه مساحة إعلامية كبيرة في وسائل الإعلام من خلال التصريحات المثيرة وذات الطابع العنصري والمعادي للأجانب في فرنسا أو الفرنسيين من أصول أجنبية وفي مقدمتهم الجالية المسلمة في فرنسا، مقابل الصعود القوي ل »التجمع الوطني » الوجه الآخر لليمين المتطرف، فما الذي يجعل هذا ينجح والآخر يسقط رغم انتمائهما لنفس العائلة الحزبية والأيديولوجية .
4 – حصول تحالف « معا » على الرتبة الأولى من حيث العدد يعكس منطقيا نتائج الترتيب على مستوى الانتخابات الرئاسية بالنسبة للرئيس ماكرون وبرنامجه السياسي، إلا أنه فوت عليه فرصة الحصول على الأغلبية المطلقة ( 289 مقعد) لتشكيل فريق حكومي وأغلبية مريحة تمكنه من مواصلة تطبيق برنامجه الانتخابي وتمرير القوانين والتشريعات، وقد اعتبرت بعض التحليلات أن هذه النتيجة بمثابة تصويت عقابي لماكرون، وقد صرَحت رئيسة الوزراء في حكومة ماكرون « إليزابيت بورن » عقب ظهور النتائج أن هذه النتائج « تشكل خطرا على البلاد »، كما عكس خطاب ماكرون هذه الإشكالية بعد استقباله للأحزاب الفائزة ومعرفة رأيها حول هذه النتائج وكيفية التعامل معها، مع تأكيده على ضرورة الحوار والتعاون لتجاوز هذه الوضعية .
خلاصة :
في هذه الانتخابات أظهرت النتائج التشريعية صعوبة تحقيق حلم الرئيس ماكرون، من خلال حرمانه أغلبية مطلقة تمكنه من مواصلة تطبيق مشروعه الحزبي والسياسي الفرنسي والأوروبي، وفرز خريطة سياسية حزبية مبلقنة يمينا ويسارا، مع تسجيل نسبة مقاطعة انتخابية مقلقة تؤشر على أن هناك أزمة في الجمهورية الخامسة، تجعل من أي حل سياسي أو دستوري لتجاوز مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية ونتائجهما أن يكون نسبيا إلى حين، فإلى أي حد سينجح الرئيس « إمانويل ماكرون » في تدوير الزوايا ؟ هذا ما سنراه في الأيام المقبلة .
المراجع :
- الانتخابات التشريعية الفرنسية: ماكرون أمام تحدي تشكيل أغلبية برلمانية… مع من سيتحالف؟
2 Le séisme des élections législatives 2022 – François Asselineau
https://www.youtube.com/watch?v=79fFqgXn0x8
3 – حركة السترات الصفراء
https://ar.wikipedia.org/wiki/
Soyez le premier à commenter